العراق في لحظة الفراغ الوطني

18

 

تعيش الساحة العراقية اليوم واحدة من أعقد لحظاتها التاريخية؛ لحظة يمكن وصفها بـ الفراغ الوطني. فراغٌ لا يعود إلى غياب الدولة فحسب، بل إلى غياب المشروع الجامع الذي يمكن أن يلتقي عنده العراقيون بمختلف مكوّناتهم، بعدما تحوّل العراق إلى ساحةٍ لتصارع الإرادات الإقليمية والدولية، تتناوب على التحكم بمصيره وتوزيع أوراقه وفق مصالحها.
انهيار الخطاب الوطني
منذ سنوات، يتراجع الخطاب الوطني لحساب الخطابات الطائفية والمناطقية والفئوية، فباتت الأحزاب تستمد شرعيتها من الخارج أكثر مما تستمدها من الداخل. المواطن العراقي، الذي حلم بدولة مدنية حديثة تحمي حقوقه وتؤمّن مستقبله، وجد نفسه أسيراً لزعامات تتحدث باسمه دون أن تمثّله، وتساوم على حاضره ومستقبله في بازار السياسة الإقليمية.
بين انسحاب أميركي وتغوّل إيراني
الانسحابات الأميركية المتكررة من القواعد العسكرية، سواء أُسميت “إعادة تموضع” أو “انسحاباً كاملاً”، لم تترك فراغاً عسكرياً بقدر ما عرّت الفراغ السياسي الوطني. فالواقع أظهر أن غياب الإرادة الوطنية فتح الأبواب واسعة أمام إيران لتملأ المشهد، عبر فصائل مسلّحة وقوى سياسية مرتبطة بها، حولت العراق إلى ورقة ضغط في صراعات المنطقة. وبينما كان المنتظر أن يكون العراق نقطة التقاء لمصالح الشعوب، تحوّل إلى ساحة لتصفية الحسابات.
مأزق السلطة والشعب
السلطة في العراق تعيش انفصالاً تاماً عن المجتمع. فهي غارقة في نزاعاتها على الحصص والنفوذ، بينما الشارع يغلي تحت ضغط الأزمات الاقتصادية، وانعدام الخدمات، وانسداد الأفق السياسي. الثورة الشعبية التي اندلعت عام 2019 كانت محاولة لكسر هذا الجمود، لكنها اصطدمت بآلة قمع منظّمة، وبغياب قيادة موحّدة تمتلك مشروعاً واضحاً للتغيير. ومع ذلك، فإن جذوة الاحتجاج لا تزال مشتعلة تحت الرماد.
لحظة حاسمة
إن العراق يقف اليوم عند مفترق طرق: إما أن يظل ساحةً للفراغ الوطني، تتحكم فيه قوى الخارج وتقتات عليه طبقة فاسدة، أو أن ينجح العراقيون في بلورة مشروع وطني جامع يعيد للعراق هيبته ودوره. والمفارقة أن الظروف الدولية والإقليمية الحالية، بما تحمله من صراعات مفتوحة، قد تتيح فرصة نادرة لإعادة صياغة المشهد العراقي إذا توافرت إرادة داخلية صلبة، تقطع الطريق أمام استغلال الخارج وتعيد القرار إلى الداخل.

الفراغ الوطني في العراق ليس قدراً محتوماً. بل هو لحظة اختبار كبرى: إمّا أن تتحوّل إلى بوابة لانهيار أوسع وفوضى أشد، أو إلى نقطة انطلاق نحو بناء دولة مدنية قوية. والمفتاح هنا بيد العراقيين أنفسهم؛ فحين يقرر الشعب أن يملأ هذا الفراغ برؤية واضحة ومشروع جامع، لن يكون بمقدور أي قوة خارجية أن تفرض عليه مساراً لا يريده.

التعليقات معطلة.