تمر الدول والأمم بلحظات فارقة تختبر قدرتها على الصمود أمام الأزمات، والفرق بين الانهيار والنهضة يكمن في الاستعداد المسبق وحسن إدارة المخاطر، ففي سبتمبر 2019، حين تعرضت السعودية لهجوم استهدف منشآتها النفطية في بقيق، توقع كثيرون أن تهتز أسواق الطاقة وأن تقفز الأسعار إلى مستويات قياسية، غير أن النتيجة جاءت مغايرة تماماً، وذلك بفضل الله ثم بفضل خطط التعافي المسبقة وتفعيل المخزونات النفطية، وجاهزية عالية لإصلاح الأضرار في وقت قياسي، إذ عادت الإمدادات بسرعة، واستقرت الأسواق العالمية دون أن يشعر المستهلك بتأثير كبير.
لقد أثبتت التجربة أن الجاهزية ليست ترفاً، بل استثمار يدرّ أضعاف تكلفته ساعة الخطر، وهو ما تعكسه رؤية السعودية 2030 باعتبارها إطاراً شاملاً لإدارة المخاطر وتعزيز المناعة الوطنية في مجالات الاقتصاد والأمن السيبراني والصناعة العسكرية والأمن الغذائي والمائي.
ولا تقتصر الدروس على التجربة السعودية، بل إن العالم مليء بالأمثلة التي تؤكد أن الاستعداد هو مفتاح النجاة، ففي كوريا الجنوبية، ورغم التهديدات اليومية من جارتها الشمالية، يعيش المواطنون حياة طبيعية لأنهم يعرفون ما يجب فعله لحظة الخطر … آلاف الملاجئ موزعة في المدن، ومندمجة في خرائط الهواتف الذكية، والتدريبات الشعبية جزء إلزامي من حياتهم، حتى صار التعليم العملي على مواجهة الأزمات جزءاً من المناهج المدرسية.
أما روسيا فقد ذهبت أبعد باعتماد ما يعرف بـ”نظام اليد الميتة”، وهو ردع نووي تلقائي يضمن الرد حتى لو دمرت القيادة بالكامل، ورغم تكلفته الباهظة، فقد منع الأعداء من التفكير في الهجوم، ليتحول من فكرة تكتيكية إلى أداة استراتيجية تصون بقاء الدولة.
في المقابل، أظهر إعصار كاترينا الذي ضرب الولايات المتحدة عام 2005 خطورة غياب الاستعداد، إذ خلف آلاف الضحايا وخسائر بمليارات الدولارات رغم كثافة التحذيرات، الأمر نفسه تكرر في الفلبين مع إعصار هايان عام 2013 الذي أودى بحياة خمسة آلاف شخص، كان بالإمكان إنقاذ كثير منهم لو وجد نظام إنذار مبكر فعال، وهو ما أثبتت تايوان جدواه حين استثمرت مبكرا في الإنذار والتدريب، فتمكنت من تقليل الخسائر البشرية أثناء الزلازل، بما في ذلك زلزال 2024 الأخير.
هذه النماذج تظهر أن تكلفة الاستعداد مهما ارتفعت تبقى أقل بكثير من ثمن الكارثة حين تقع، وفي المملكة العربية السعودية، ورغم النجاحات السابقة، ما زالت هناك تحديات أبرزها ندرة البيانات الدقيقة، وضعف التنسيق بين الجهات الحكومية، وغياب تصنيف وطني شامل للمخاطر، إضافة إلى تحديات القطاع الصحي مثل نقص تدريب فرق الإسعاف وازدحام أقسام الطوارئ.
ويمثل تأسيس الهيئة الوطنية لإدارة الطوارئ فرصة ذهبية لبناء منظومة متكاملة، شريطة أن يتوازى عملها مع رفع مستوى وعي المجتمع، لأن الخطر الحقيقي لا يكمن في وقوع الكارثة، بل في جهل الناس بكيفية التصرف عندها،وأدركت دول عديدة أن الوعي الشعبي هو قلب الاستعداد لا مجرد عنصر مكمل.
ففي اليابان تحول “يوم الوقاية من الكوارث” إلى مناسبة وطنية يشارك فيها الملايين، وفي بنغلاديش أنقذ برنامج التأهب للأعاصير آلاف الأرواح بفضل شبكة متطوعين ينشرون التحذيرات ويوجهون الناس إلى مناطق آمنة، بينما جعلت كوريا الجنوبية تدريبات الطوارئ جزءاً من الحياة اليومية في المدارس وأماكن العمل، هذه التجارب تؤكد أن الخطط الحكومية مهما بلغت دقتها تبقى ناقصة من دون ثقافة مجتمعية راسخة تجعل الاستجابة الفورية سلوكاً طبيعياً.
إن إدارة المخاطر ليست عبئاً مالياً كما يظن البعض، بل استثمار يحمي الأرواح ويصون الاقتصاد، والدول القوية ليست تلك التي تنجح في تجنب الأزمات، بل التي تنهض منها أكثر صلابة، بفضل رؤية واضحة، وجاهزية عالية، ووعي شعبي متجذر، وهنا يتأكد أن رهان السعودية في مستقبلها هو دمج مفاهيم الاستعداد في الهوية الوطنية، بحيث يعرف كل مواطن ومقيم ماذا يفعل إذا دقت ساعة الخطر.