اللغة والتراث.. معادلة البقاء

5

كلنا نعلم أن اللغة، في جوهرها العميق، هي ذاكرة الشعوب وسجلّها الحي، وهي الحاضنة التي تنقل الأجيال من عتمة الجهل والنسيان إلى نور الوعي بالهوية.

وحين يتأمل المرء التراث البشري، يجد أن الحضارات التي اندثرت قد اندثرت لغاتها، أما التي بقيت لغاتها حيّة فهي الحضارات المستمرة، لذلك فإن علاقة اللغة بالتراث وجودية وفلسفية، وهي المرآة التي تعكس صورة الإنسان في ماضيه وحاضره ومستقبله، والبوابة التي تفتح على القيم والمعاني.

طالعت مؤخراً دراسات فلسفية عالمية ترى أن اللغة هي التي تمنح المجتمعات هويتها، وأن فقدانها يعني تفتت الذاكرة الجماعية. وحين تذبل اللغة، يبهت التراث، ويخسر الناس قدرتهم على استدعاء معانيهم الكبرى. فالإنسان الذي يولد في حضن لغته الأم ينشأ على إيقاعها، ويفهم الوجود من خلال مفرداتها.

فإذا تبددت اللغة أو تراجعت، اختلّت هذه العلاقة بين الفرد وجماعته. لذلك، فإن حماية اللغة ليست ترفاً فكرياً أو مطلباً نخبوياً، بل قضية وجودية.

الإمارات لها تجربة ملهمة في الحفاظ على اللغة العربية واللهجة الإماراتية باعتبارهما وجهين لعملة واحدة: الفصحى التي تمثل الامتداد الحضاري للأمة، واللهجة التي تمثل الخصوصية المحلية، وتجسد تفاعل الإنسان مع بيئته.

فاللهجة الإماراتية سجلّ حي للذاكرة الشعبية، تحمل في مفرداتها ملامح البحر والصحراء والجبل. حين يقول أهل الإمارات مثلاً كلمة «الحوي» فإنهم يفتحون نافذة على تفاصيل حياة قديمة، حيث تجتمع العائلة في ساحة البيت لتتبادل الأحاديث.

وحين ينطقون كلمة «العزبة»، فإنهم يستحضرون صورة الريف وعلاقة الإنسان بالأرض. حتى كلمات مثل «بيزات» للنقود أو «خاشوكة» للملعقة، تحمل في طياتها إشارات إلى تاريخ من التفاعل مع شعوب أخرى.

أدركت الإمارات هذا البعد العميق للغة، وجعلت من حمايتها ورعايتها سياسة رسمية ودستورية.

فمنذ إعلان الدستور عام 1971، نُصّ على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة، ثم جاءت سلسلة من القوانين لترسخ هذا المبدأ في كل مفاصل الحياة: من قانون القراءة لعام 2016 الذي جعل من العربية وعاءً أساسياً للثقافة الوطنية، إلى قانون الإجراءات المدنية لعام 2022 الذي أكد العربية لغة المحاكم والتقاضي.

وفي 2025، أعيد تشكيل المجلس الاستشاري للغة العربية ليكون رافعة مؤسسية جديدة تتابع تنفيذ السياسات وتطويرها.

كل ذلك يثبت أن حماية اللغة هو رؤية مؤسساتية متكاملة من الدستور إلى الممارسة اليومية.

لم تقف الإمارات عند حدود النصوص القانونية، بل أطلقت مبادرات نوعية ذات أثر عالمي.

فميثاق اللغة العربية عام 2012 كان بمثابة إعلان مبادئ يرسي للعربية مكانتها في التعليم والإعلام والإدارة، ثم جاء «تحدي القراءة العربي» عام 2015 ليجعل من العربية جسراً يصل إلى ملايين الطلاب العرب، ويعيد الاعتبار للقراءة في زمن الشاشات والسرعة.

وفي السنوات الأخيرة، تحولت قمة اللغة العربية إلى منصة عالمية تناقش مستقبل العربية، وتضع لها استراتيجيات بعيدة المدى.

ومن منظور فلسفي أعمق، يمكن القول إن اللغة هي التي تمنح الزمن معناه. فالأمة لا تحفظ ذاكرتها في الكتب وحدها، بل في الأحاديث اليومية، في أسماء الأماكن، في مفردات الضيافة.

فإذا تحدث طفل إماراتي اليوم بلهجة أجداده، فهو يستعيد علاقة كاملة بالزمان والمكان، علاقة تحمل في طياتها معنى الانتماء والاستمرارية. وهكذا، فإن حماية اللهجة الإماراتية، في جوهرها، حماية للزمن الإماراتي، للمسار الذي يشد الحاضر إلى الماضي ويمتد نحو المستقبل.

وقد أثبتت التجارب التاريخية أن الأمم التي أهملت لغتها ضعفت هويتها وتلاشت في دوامة العولمة، بينما الأمم التي اعتنت بلغتها، استطاعت أن تحافظ على خصوصيتها، حتى وهي منخرطة في الاقتصاد العالمي.

فمن يتقن لغته الأم يكون أقدر على الانفتاح على لغات العالم، لأنه ينطلق من أرضية صلبة وهوية واثقة. واللهجة الإماراتية هي نافذة تعكس خصوصيتنا وتثري تنوعنا الثقافي العالمي.

سنتفق اليوم أن اللغة واللهجة هما رأس مال لا يقل أهمية عن النفط والاقتصاد.

وإذا كانت الإمارات نجحت في أن تجعل من اقتصادها نموذجاً عالمياً، فإن علينا أن نجعل من لغتنا ولهجتنا مشروعاً عالمياً موازياً، مشروعاً يوثق اللهجة الإماراتية في المناهج، يدمجها في التطبيقات الرقمية، يحولها إلى محتوى إعلامي وفني، ويجعلها جزءاً من القوة الناعمة التي تصدرها الدولة للعالم.

فكما تتصدر الإمارات في التكنولوجيا والفضاء والاستدامة، يمكنها أن تتصدر في حماية اللغة والتراث.

 

تنويهجميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.

التعليقات معطلة.