هل حذر سيد البيت الأبيض تل أبيب من ضعف حل بها وبات يؤثر في مكانة تحالفهما وحثها على حسم المعركة؟
وليد فارس الأمين العام للمجموعة الأطلسية النيابية
قال ترمب “يجب أن تنتهي الحرب لأنها قد تكسب إسرائيل عسكرياً، لكنها قد تخسرها معركة العلاقات العامة، مما يضر بها” (أ ب)
ملخص
كلام لم يسمع من قبل في أميركا عن علاقة ترمب بإسرائيل، وكأنه يحذر من تزايد ضعف التأثير اليهودي – الأميركي في الكونغرس، وبصورة خاصة في مجلس الشيوخ، وهو الأهم للسياسة الخارجية. والسؤال هو لماذا يقول ترمب ما قاله الآن؟
أدلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب بتصريحات غير مسبوقة لأي رئيس أميركي منذ قيام دولة إسرائيل عام 1947 عندما أطلق تصريحاً لافتاً اعتبر فيه أن “اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة يعيش أضعف مراحله، بعدما فقد كثيراً من نفوذه التقليدي داخل أروقة الكونغرس”. وتراكض المراقبون داخل الولايات المتحدة وخارجها ليصفوا كلام كهذا بأنه دليل قاطع على تراجع التأثير الإسرائيلي، وربما السطوة، في واشنطن على الدولة والمؤسسات الدستورية كالكونغرس. فبالفعل لكي يعلن رئيس أميركي، بخاصة رئيس قوي كترمب، عن “تطور في تأثير إسرائيل في أميركا”، فهو من دون شك لا يفسر إلا أنه رسالة غير مباشرة من البيت الأبيض إلى حكومة بنيامين نتنياهو لكي يستمع إلى إنذار الرئيس الأميركي من أن “ذخيرة” إسرائيل السياسية في واشنطن باتت محدودة وأن ترمب هو الوحيد القادر أن يزودها بحاجاتها للاستمرار بالمواجهة مع حركة “حماس”، أو على نحو أكبر، مع إيران.
وأضاف “يجب أن تنتهي الحرب لأنها قد تكسب إسرائيل عسكرياً، لكنها قد تخسرها معركة العلاقات العامة، مما يضر بها”. وهنا أيضاً تكمن رسالة مباشرة من سيد البيت الأبيض إلى رئيس وزراء إسرائيل ترجمتها أن تل أبيب لديها القوة العسكرية لإتمام السيطرة على غزة، وربما جنوب سوريا، ولكن لن تتمكن من الحصول على اعتراف دولي بالتغييرات على الأرض. وكأنه يمرر رسالة إلى حليفه “إما أن تتبعني، أو أن تفشل في نهاية المطاف”. وتابع أن “إسرائيل كانت تملك أقوى لوبي في الكونغرس، أقوى من أية هيئة أو مؤسسة أو شركة أو ولاية رأيتها في حياتي، أما اليوم فلم يعُد لديها لوبي بتلك القوة، وهذا أمر مدهش”.
كلام لم يسمع من قبل في أميركا عن علاقة ترمب بإسرائيل، وكأنه يحذر من تزايد ضعف التأثير اليهودي – الأميركي في الكونغرس، وبصورة خاصة في مجلس الشيوخ، وهو الأهم للسياسة الخارجية. والسؤال هو لماذا يقول ترمب ما قاله الآن؟ هل هذه قناعة قديمة أم أنها جديدة؟ هل يعبر عن مخاوف من أن تخسر إسرائيل مزيداً من التأثير؟ أم أنه يحذر إسرائيل من سياسة “التصرف خارج إرادة واشنطن؟”. وأضاف خلال المقابلة “كان هناك وقت لا يمكنك فيه أن تنتقد إسرائيل إذا كنت تريد أن تكون سياسياً”، أي إن اللوبي المؤيد لإسرائيل كان أقوى قوة ضغط على الإطلاق، وكان السياسيون الأميركيين لا يجرؤون على تحدي هذا اللوبي الجبار. وكلام كهذا أحدث موجات من التساؤل العميق. هل أن ترمب كان دائماً مؤمناً بهذا الطرح؟ أم أنه شعر بتغير موقف الرأي العام ولحق به؟ لكن الرئيس هو أكبر داعم لإسرائيل إلى أبعد الحدود، فهو من دججها بالسلاح وبالدعم الدبلوماسي، واستمر بإرسال المساعدات المالية ونقل السفارة إلى القدس، وأكد سيادتها على الجولان، وفي رأس لائحة الدعم أعطى الأوامر بتدمير المنشآت النووية الإيرانية. لذا فالتساؤل هو بمكانه بعد هذه التصريحات، هل حذر ترمب إسرائيل من ضعف حلّ بها وبات يؤثر في مكانة تحالفهما وحثها على حسم المعركة؟ أم أنه يحذرها من خسارة الدعم السياسي والشعبي الذي كانت تتمتع به سابقاً؟ والرئيس ترمب تكلم بحدّين، حد يطمئن الرأي العام المؤيد لإسرائيل بأنه يحميها ويحثها على تدارك الأمر، وحد آخر لمنتقدي إسرائيل داخلياً وخارجياً بأنه يضع حدوداً لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في مواجهاته على الأرض مع أخصامه. وسؤال كهذا خلال هذه المرحلة الدقيقة يحتاج ربما إلى سلسلة من المقالات حول الموضوع، لكننا سنبدأ بالاستشفاف الأولي وننتقل إلى الملاحق تدريجاً.
اقرأ المزيد
حماس مستعدة لـ “اتفاق شامل” وترمب: الحرب ستنتهي إذا أعادت الرهائن
غزيون يسخرون من عروض ترمب: ليست مغرية
آن وترمب وغزة
هلع إسرائيلي من تصدع العلاقة بين ترمب ونتنياهو
أولاً، لا بد من الإشارة إلى أن المقابلة أجريت مع وسيلة إعلامية قريبة من الصحافي المعروف تاكر كارلسون الذي بات أقوى ناقد لإسرائيل مع ملايين المؤيدين على الإنترنت، وتحول إلى نجم للتيار المحافظ الانعزالي، ومعه عدد من كبار أنصار ترمب المعروفين مثل مات غايتز وعضو الكونغرس مارجوري تايلور غرين وغيرهما.
فهل اختار الرئيس هذه الوسيلة الإعلامية للوصول إلى جناح كبير في الحزب الجمهوري وإرضائه؟ أم أنه أطل من ذلك المنبر لإيصال رسالة متعددة الاتجاهات من المحافظين إلى من يفاوضهم في المنطقة وإلى القادة الإسرائيليين، ليقبض على كل مسارات التفاوض؟ من المبكر معرفة ذلك، ولكن بمجرد أن صدرت هذه الملاحظات حتى دخلت في عالم التحليلات في أميركا والغرب. فهناك شيء ما طرأ على ظاهرة تأثير إسرائيل في أميركا، ومن الضروري معرفته. فبعضهم يهمس أن الكلام الرئاسي ربما يكون جزءاً من هذا الاستضعاف بهدف إعادة تركيب ميزان التأثير السياسي وليس بالضرورة انحساراً له. أضف إلى ذلك أن هناك تاريخاً صعوداً وهبوطاً للتأثيرالإسرائيلي في أميركا، لم يكن قوياً دائماً ولا ضعيفاً دائماً. ونستذكر حادثة القصف الإسرائيلي لمدمرة أميركية خلال حرب الأيام الستة في يونيو (حزيران) عام 1969، وكيف فسرها بعضهم أنها ليست خطأ عسكرياً بل حالاً عدائية بين البلدين من ناحية، والجسر الجوي الاستراتيجي الذي أقامه الرئيس الراحل ريتشارد نيكسون مع إسرائيل خلال حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، لحسم الحرب لمصلحة إسرائيل، مع العلم أن اللوبي المؤيد لإسرائيل لم يكُن بعد قائماً بقوة. إن تاريخ العلاقات الأميركية – الإسرائيلية طويل بطول قيام دولة إسرائيل وتطورها، وتاريخ نفوذها في أميركا أيضاً معقد مع عدد من الثوابت.
لكن تصريحات ترمب غير المتوقعة تنذر بظاهرة غير عادية في تطور تلك العلاقات. فبعضهم ذهب إلى التبشير بأن إسرائيل باتت تعزل نفسها بنفسها بسبب حروبها المتعددة في غزة ولبنان ومع الحوثيين وفي سوريا، إضافة إلى إيران ورفضها مبدأ “حل الدولتين”، وبعضهم الآخر يعتقد بأن قربها من تغيير موازين قوى جيوسياسية في غزة وجنوب لبنان وجنوب سوريا ما دفع إلى تعبئة المعسكر المعادي لها.
فالأعوام الماضية شهدت تحركات طلابية وشارعية واسعة ضد إسرائيل بعد هجوم السابع من أكتوبر عام 2023 لاستنكار الرد العسكري على حركة “حماس” ونتائجه على الأرض، ورأت أيضاً حملات دولية كثيفة ضد الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة. والسؤال هو هل ذلك يعني أن الرأي العام الدولي انقلب ضد إسرائيل؟ أم أن القوى المواجهة لإسرائيل صعدت عملها وباتت أكثر تنظيماً وتمويلاً؟
داخل الولايات المتحدة من الواضح أن التيارات اليسارية ضمن القطاعات الطلابية نجحت في تجنيد وتعبئة أعداد أكبر من الطلاب الجدد، أما في القطاعات السياسية، فصحيح كما قال ترمب إن عدداً أوسع من السياسيين بات ينتقد إسرائيل واللوبي المؤيد لها في العلن. في المقابل لا يزال التيار الإنجيلي الواسع الذي يشكل عصب قاعدة ترمب، مؤيداً حاسماً لإسرائيل. وهنا نرى الرئيس يخرج بإنذار لقواعده البروتستانتية بأنه سيستمر بدعم إسرائيل، لكن ذلك بات أصعب من قبل. فهو لا يزال صديقاً للحكومة الإسرائيلية لكن المعارضة الداخلية والعالمية لموقفه باتت أكثر جرأة. وما يعنيه ربما، بحسب التحليل، أنه يريد حماية إسرائيل، لكن وفق خطته هو وليس خطط نتنياهو. والموضوع يبدو وكأنه شد حبال ضمن المعسكر الواحد كما جرى رصده تجاه غزة وإيران وأخيراً في جنوب سوريا، إلا أن ما هو غير معلوم هو قدرة الكتلة الضخمة الإنجيلية التي تؤلف أكثرية مؤيدي ترمب على مواجهة صعود التيار المعارض لإسرائيل داخل الجامعات ولدى قطاع من السياسيين والإعلاميين في أميركا. هذا ما سنستمر في تحليله ضمن مقالات مقبلة.