التحرك السعودي وصناعة الثابت والساقط في معادلات الشرق الأوسط

8

 

منذ عقود، ظلّت القضية الفلسطينية حاضرة في وجدان الشعوب العربية، لكنها بقيت أسيرة الشعارات والمواجهات العسكرية التي لم تغيّر في الواقع السياسي شيئًا جوهريًا. ومع مرور الزمن، أصبح واضحًا أن طريق الحروب لم يحقق للفلسطينيين سوى المزيد من التعقيد والانقسام، فيما استمرت إسرائيل في فرض وقائعها على الأرض . لكنّ التحولات الأخيرة في موازين القوى الإقليمية والدولية أفرزت واقعًا جديدًا . لم يعد العالم يتعامل مع فلسطين كـ “قضية إنسانية” أو ملف نزاع طويل الأمد، بل بات يتعامل معها كدولة لها شرعية سياسية تفرض حضورها في الساحة الدولية .
في هذا السياق، جاء الاعتراف الأوروبي بدولة فلسطين، خطوة لم تكن وليدة لحظة عاطفية أو ضغط شعبي، وإنما ثمرة لتحرك استراتيجي عربي تقوده السعودية بوعي سياسي عميق ورؤية مدروسة. لقد أعادت الرياض عبر هذا المسار تعريف أدوات الصراع، مؤكدة أن السياسة الحكيمة أقدر على صناعة الانتصارات من أصوات المدافع .
الاعتراف الأوروبي بدولة فلسطين كان خطوة تاريخية في الصراع الإقليمي، لكنه لم يكن وليد الصدفة أو الضغوط الشعبية، بل نتيجة تراكمية لتحركات سياسية مدروسة وقوة عربية حقيقية فرضت واقعها على الساحة الدولية. هذا الاعتراف لم يحل محل القضية الفلسطينية، لكنه حولها من مجرد قضية عالقة إلى دولة قائمة تحت مظلة السياسة الذكية والفاعلة.
وسط هذا المشهد، برزت السعودية كفاعل محوري. تحركها لم يكن عاطفيًا أو شكليًا، بل كان استراتيجيًا بامتياز. من خلال تفعيل اتفاقيات مع دول مثل باكستان، استطاعت الرياض تعزيز موقفها التفاوضي على الساحة الدولية، وإرسال رسائل واضحة لكل الأطراف الإقليمية: أن القدرة على التأثير وتحقيق النتائج لا تأتي بالحشود أو الحرب، بل من خلال السياسة الحكيمة والإرادة الصلبة والإطار التنفيذي المنظم .
هذا التحرك يعكس عدة حقائق أساسية:
السياسة أقوى من الحرب: رغم كل الحروب العربية السابقة ومحاولات محور المقاومة، لم تستطع أي قوة أن تحقق ما حققته السعودية من نتائج سياسية ملموسة. السياسة الذكية فرضت الواقع، وحوّلت الإرادة العربية إلى نتائج حقيقية على الأرض.
التحرك الاستراتيجي المدروس: استغلال التحالفات الإقليمية والدولية لصالح الموقف العربي، وتحويلها إلى أدوات ضغط مؤثرة على القرارات الدولية.
القدرة على إعادة رسم موازين القوى:
من خلال تنسيق الخطوات وتحديد الأولويات، استطاعت السعودية أن تُعيد ترتيب المعادلات الإقليمية لصالح العرب والفلسطينيين دون الانزلاق إلى صراعات مسلحة.
النتيجة الأهم من هذا التحرك هي أن الشعب الفلسطيني أصبح اليوم صاحب دولة، وليس مجرد قضية، بفضل سياسة عربية واعية وفاعلة. هذا الإنجاز يثبت أن العرب قادرون على فرض إرادتهم السياسية وتحقيق مصالحهم الاستراتيجية إذا اجتمعت الرؤية والإرادة والقدرة على التنفيذ.
في النهاية، الدرس الأبرز هو أن السياسة قادرة على تحقيق ما تعجز عنه الحروب والحشود، وأن النجاح في المنطقة لا يُقاس بالقوة العسكرية وحدها، بل بمدى قدرة الدول على قراءة المشهد الدولي والإقليمي وتحويل التحركات الدقيقة إلى نتائج ملموسة تغير الواقع لصالحها. السعودية اليوم أثبتت أن الإرادة العربية المصاغة بالسياسة يمكنها أن تصنع التاريخ.
وفي خضم هذه التحولات الكبرى، يبقى معيار الثبات والسقوط مرهونًا بالقدرة على قراءة اللحظة التاريخية والتكيف مع مسارها. الدول التي تبني سياساتها على رؤية استراتيجية وحسابات دقيقة هي التي ستبقى فاعلة في رسم المستقبل، أما من يكتفي بالشعارات أو يراهن على الفوضى فمصيره التراجع والانكفاء. وهنا تتجلى قيمة التحرك السعودي: أنه لم يكن مجرد رد فعل، بل صناعة فعل سياسي سيبقى حاضرًا في معادلات المنطقة لسنوات قادمة.

التعليقات معطلة.