التعذيب كجريمة مستمرة
رافقت ممارسة التعذيب المجتمعات البشرية منذ تأسيسها ككيانات، وهذه الممارسة التي باتت مدانة على نطاق واسع وتُحارب من جهات مختلفة حكومية وغير حكومية، ما زالت موجودة على نطاق واسع في دول الجنوب، وتتوسع إلى أقصى وأقسى الوحشية في الأماكن التي تشهد صراعات دموية. وعلى رغم كل المحاولات والجهود لوقف هذه الظاهرة والحد منها، فإنها، بحسب وصف مندوب مكافحة التعذيب في الأمم المتحدة، ما زالت تشكل «واقعاً مظلماً، على رغم إجراءات المنظمات غير الحكومية والحكومية. فلا يزال التعذيب يعد مشكلة منتشرة وواسعة، ولقد أصبحنا مدركين وفي شكل متزايد تواصل التعذيب ليس فقط ضد المعارضين السياسيين، بل أيضاً ضد المشتبه بارتكابهم جرائم محددة». فعلى مدى تاريخ المجتمعات البشرية، كانت ممارسة التعذيب جزءاً من التكوين التاريخي، وعلى رغم وحشية الحضارات القديمة في التعامل مع التعذيب، فإن القرن العشرين فاق في وحشيته كل العصور السابقة، ليس في تطوير آليات التعذيب فحسب، بل وفي تطوير وسائل الإبادة الجماعية التي ذهب ضحيتها عشرات ملايين البشر، والتي إذا قورنت أرقامها بوحشية الحضارات القديمة، فقد تتفوق عليها مجتمعة في الوحشية.
تورطت كل المجتمعات البشرية في وباء التعذيب، وابتدعت وسائل تعذيبها التي تعتقد أنها تساهم في بقائها وتدل على قوتها، وتردع الآخرين عن ارتكاب الأخطاء وتجعلهم عبرة لمن اعتبر. وكم كان البشر متوحشين وهم يغرقون في ساديتهم عندما يوظفون عقولهم من أجل إبداع وسائل ليس لها وظيفة سوى إيقاع الأذى والألم ببشر آخرين مثلهم. وعلى رغم المحاولات الحثيثة لتبرير التعذيب وتحويل من يمارَس عليهم التعذيب إلى شياطين وكفرة وخونة، فإنها في حقيقتها كانت وسائل للدفاع عن السلطات القائمة، ومحاولة لردع الآخرين عن الاقتراب منها أو تهديدها.
وعلى رغم كل الجهود التي تبذلها العلوم الاجتماعية والإنسانية للكشف عن طبيعة هذه الظاهرة، وعن جذور العنف عند الإنسان، وعلى رغم كل الإنجازات التي تحققت، فإن ذلك لم يجعل المجتمعات البشرية أقل عنفاً أو أقل تعذيباً، فهذه الظاهرة لا يمكن تفسيرها كممارسة فردية، فهي تنتظم ضمن آليات عمل السلطة التي تمارس العنف، وبالتالي تنحدر إلى مزيد من التعذيب كلما شعرت بأن هناك قوى اجتماعية تهددها. وعلى هذا الصعيد ما زالت البشرية بعيدة من أن تتعلم كيف تحمي أبناء جلدتها من التعذيب الذي يحصل في بعض الأمكنة بوحشية استثنائية، كما هي حال سورية اليوم، حيث اعتبرت منظمة العفو الدولية سجن صيدنايا «مسلخاً بشرياً». فما زالت سلطات كثيرة تعالج ما تعتقده «جريمة» بجريمة أكبر، بانتهاك إنسانية الإنسان من خلال التعذيب الوحشي.
طُبق التعذيب بكل تلاوينه على بشر من لحم ودم، ما زالت صرخاتهم تملأ التاريخ وتملأ سجون اليوم. فبعد أكثر من سبعة عقود على لائحة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان التي تحرّم التعذيب، وبعد ثلاثة عقود من الاتفاقية الدولية لمعاهدة مناهضة التعذيب، ما زالت صرخات المعذبين تملأ العالم. كأن البشرية ترفض الخروج من وحشيتها. فالوحشية في التعذيب التي مورست على مدى قرون من قبل الجلادين، لا تزال تطبق حتى يومنا هذا، وأي مراجعة لتقارير حقوق الإنسان تكفي لإعطاء صورة صارخة عن الوحشية التي لا نزال نعيش في ظلها. ولم تكفِ كل صرخات الألم وملايين الضحايا التي سقطت تحت جرائم التعذيب لتعليمنا الدرس الأساسي: أن نعامل الآخر بوصفه إنساناً، بصرف النظر عن جسامة الأفعال التي ارتكبها، على رغم أن التعذيب كان دائماً يصيب الأبرياء.