هل فهمت السينما المرأة؟

3

علا رضوان

أكتب هذه السطور كناقدة تشاهد العالم من عدسة كاميرا، وكامرأة ما زالت تجرب كل يوم أي لغة تصلح لقول: أنا هنا. بيني وبين الشاشة اتفاق قديم: ستكذب أحيانا وتصدق أحيانا، ستتجمل على حسابي وتنتصر لي في لحظات، وستقف حائرة كثيرا أمام سؤال بسيط معقد: ماذا تريد المرأة؟

من أول لقطة تعلمت أن السينما لا تُجيب بل تُجرب الإجابة. هناك أفلام تضعنا في تصور جاهز مُعلب عن المرأة المتقلبة كمزاج أو الفاتنة كديكور، وأخرى تقترح أن الرغبة الأنثوية أكبر من المقاسات الجاهزة: رغبة في المعنى قبل المتعة، في الاعتراف قبل التصنيف. بين هذين الطرفين يتأرجح تاريخ طويل من الصور: بعضها يشبهنا كنساء لدرجة الوجع، وبعضها يمر علينا كإعلان عطري باهت.

لم تكن النظرة الذكورية مجرد مصطلح أكاديمي؛ كانت عيني وأنا صغيرة وأنا أرى نساء هيتشكوك محاصرات بفتنة مُراقبة: في فيرتيجو دوار يريد الرجل امرأة كما يتخيلها لا كما هي. يحب الفكرة، لا الشخص. السينما هنا لا تسأل ماذا تريد هي؟ بل كيف نُعيد تشكيلها لتناسب ما نريد نحن؟

لكن العين نفسها يمكن أن تتعلم. في الشريط نفسه الذي قدم امرأة كطلل جميل، صور المخرج خواء رجل يطارد شبحا صنعه. ها أنا ـ بعد سنوات ـ أعيد مشاهدة الفيلم وأفهم: لم تكن المرأة لغزا؛ كان الرجل العاجز عن الاعتراف بهشاشته هو اللغز. السينما ـ حتى في أكثر لحظاتها تحكما ـ تكشف مفارقة: الرغبة الذكورية حين لا ترى رغبة المرأة.. تُفلس دراميا.

كلما أمسكت امرأة بالقلم أو وضعت عينها في منظار الكاميرا، تغير السؤال. في فيلم نساء صغيرات (جريتا جيرويج) تصبح لويزا ماي ألكوت معاصرة فجأة: تريد بطلاتها حق السرد وحق الأجر وحق الحب الذي لا يبتلع الحلم. في ليدي بيرد تبحث مراهقة عن اسمها وسط مدينة رمادية، وتريد من أمها اعترافا بأن الطموح لا يلغي الانتماء. ليست البطولة هنا إنقاذ العالم؛ البطولة تسمية الذات بلا خجل.

وفي المقابل، قدّم رجال عظام نساء من لحم ودم. كاسافيتيس في امرأة تحت التأثير وضع الكاميرا على يد ترتجف وقلب ينهار ويقوم، وسمح للانكسار أن يكون حقيقة لا وصمة. لم يسخر من ارتباك البطلة، لم يضعها في خانة الهستيريا المريحة التي تُبرئ الجميع. سأل: كيف يُستدرج الجنون من امرأة لا أحد يسمعها؟ هذا السؤال وحده يقرب السينما من الإجابة التي نبحث عنها.

حين نطقت الشاشة بلهجتنا -في السينما المصرية- كان لا يمكن المرور على سؤال ماذا تريد المرأة؟ من دون الوقوف أمام فاتن حمامة بوصفها ممثلة الضمير. في دعاء الكروان أرادت فتاة عفيفة بسيطة عدالة وكرامة وسط مجتمع لا يسمع إلا الفضيحة. في أريد حلا كانت المطالبة قانونا قبل أن تكون قصة؛ امرأة تريد حق الانفصال الآمن من دون أن تُسحق كرامتها على سلالم المحاكم. وفي الباب المفتوح (المخرج بركات عن رواية لطيفة الزيات) تلتقي الرغبة الشخصية بالرغبة الوطنية: تريد البطلة حياة تختارها هي، وحبا لا يشبه قسوة الأب ولا وصاية الزعيم.

في زمن أقرب، امتلأت الشاشة بأصوات أقل خطابية وأكثر قربا من الجلد. فيلم 678 وضع أصابعنا على جرح التحرش: لم يلبس النساء أجنحة الضحية، ولم يطلب منهن صمتا. قالت الشخصيات بوضوح: نريد أمانا في الشارع وحقا في الغضب. في فتاة المصنع (محمد خان) منحنا عاملة تريد حبا لا يلغي كبرياءها ولا يساوم جسدها في ورشةٍ صغيرة. وفيلم يوم للستات جعل من حمام سباحة حيّا صغيرا للنساء، مساحة مؤقتة يختبرن فيها كيف يكون الهواء حين لا تتلصص العيون.

لكن متى وأين خانتنا -نحن النساء- الأفلام؟

خانتنا حين خلطت الهشاشة مع التفاهة. حين وضعت النساء في خانة المؤامرة الصغيرة التي تفسر كل شيء: المرأة التي تريد المال، المرأة التي تريد السيطرة لأن التحكم يليق بها، المرأة التي تريد الرجل الكامل لأنها نفسها ناقصة. هذه الصور الرخيصة شائعة؛ تسلي وتريح لأنها لا تلزم أحدا بمراجعة أخلاقية.

وخانتنا أفلام أخرى حين قدمت بطلات خارقات لا يتعبن ولا يندمن، ثم رفعت لافتة تمكين. التمكين الحقيقي ليس عضلات ولا ثأرا متأخرا؛ التمكين حق الخطأ، حق طلب المساعدة، حق القول لا أعرف، وحق التأجيل من دون أن يُنتزع منك احترامك لذاتك. الأفلام التي تسمح للمرأة بأن تكون إنسانا لا تمثالا هي وحدها التي اقتربت من سؤال: ماذا تريد؟

في ذاكرتي مشاهد لا تنسى أنصفت فيها السينما المرأة أؤمن؛ يد نسائية تمسك المقص في فيلم الباب المفتوح؛ قصة شعرٍ صغيرة تعلن ولادة ذات جديدة. نظرة فتاةٍ في فيلم فتاة المصنع وهي تستعيد اسمها من بين الهمس والقيل والقال.ابتسامة عميقة على وجه لوري في فيلم نساء صغيرات وهي تفاوض الناشر على حقوقها: الفن ليس رومانسية فقط، الفن عقد أيضا. فتاة تُلقي حجرا في حمام فيلم يوم للستات، لا لتؤذي أحدا، بل لترى دوائر الماء تتسع كما تريد حياتها أن تتسع.

هل فهمت السينما المرأة؟ أجيب بصدق مهني وعاطفي: أحيانا نعم، أحيانا لا.. والأمل في أحيانا يتسع. كلما صارت الكاميرا أقرب إلى نبضنا ـ بلا رتوش وبلا خوف ـ صار السؤال أقل تعسفا، وصارت الإجابة أكثر تواضعا وصدقا. لا أريد من السينما أن تنحاز لي بوصفها دعاية؛ أريدها أن تنحاز للحقيقة حين تقول إن المرأة ليست لغزا ولا كائنا ملائكيا ولا مخبر سري للرغبات، بل إنسانا يريد أن يعيش حياة من اختياره.

وكمشاهدة وكاتبة وامرأة، سأواصل الامتنان لكل فيلم يضيف كلمة جديدة إلى قاموس الحقيقة الأنثوية، ويشطب كلمة قديمة كتبتها قرون الظلام بالنيابة عنا. وحين أسأل نفسي في نهاية عرض جيد: هل رأتني الشاشة؟ يكفيني أن أجيب: نعم، رأتني.. ولو لساعة ونصف.

التعليقات معطلة.