جورج منصور
من أبرز سمات المشهد الإعلامي والسياسي في العراق، خلال السنوات الأخيرة، ظاهرة الذباب الإلكتروني، التي تُعد من أخطر ظواهر العصر الرقمي، إذ تعمل جاهدة على تكميم الأصوات الشريفة. ولم تعد هذه الظاهرة مجرد نشاط عابر على مواقع التواصل الإجتماعي، بل تحولت إلى منظومة منظمة تستهدف كل من يجرؤ على قول الحقيقة أو انتقاد الفساد أو كشف التلاعب بمصير الناس المغلوبين على أمرهم.
الذباب الإلكتروني، بجيوشه الافتراضية، يُستخدم كأداة قمع رقمية موازية للقمع التقليدي، ولا يعمل بشكل عفوي، بل بتمويل وتخطيط دقيق، ويُستخدم كأداة لتشويه السمعة، عبر نشر الأكاذيب والإشاعات ضد المثقفين والإعلاميين والأصوات الحرة، كما يُغرق النقاشات الجادة بالسباب والشتائم والرسائل المكررة لطمس الفكرة الأساسية، أو استهداف الناشطين، أو يوجه تهديدات للناشطين، ما يخلق بيئة طاردة لأي رأي مخالف.
لم تعد مواقع التواصل الاجتماعي فضاءً حراً لتبادل الآراء كما يُفترض أن تكون، بل غدت في كثير من الأحيان ساحة لتصفية الحسابات. وهذه الظاهرة، وإن لم تكن جديدة تماماً، فإنها تتخذ اشكالاً أشد قسوة كلما استهدفت شخصيات ثقافية أوفنية تمتلك القدرة على كشف الرداءة، الأمر الذي يثير حفيظة من اعتادوا على تلميع الردئ وتمرير التفاهة على أنها منجز فني.
إن الذباب الإلكتروني ليس مجرد مجموعة من حسابات مجهولة تُطلق الشتائم، بل هو آلة مدروسة تستهدف إسكات الأصوات الشريفة عبر الإبلاغات المتكررة، والتضليل، والتحريض الجماعي، وتشويه السمعة الشخصية والفكرية. وخطورته الحقيقية تكمن في تآكل الثقة بالمعلومة، وإضعاف الإعلام المستقل، وترسيخ الشك في كل ما يُقال أو يُكتب. وهكذا يتحول الرأي العام إلى بيئة مرتبكة، تُهيمن عليها الشائعة، وتُخذيها الخرافة، بينما تتراجع الصحافة الجادة.
وبدل أن يكون الفضاء الرقمي ميداناً للحوار البنَّاء، يتحول إلى ضوضاء افتراضية تُقمع فيها حرية النقاش ويُستلب الصوت الحقيقي لصالح أصوات مصطنعة تُدار من غرف مظلمة، ويصبح الصمت قاعدة ويُترك المجال رحباً للسطحية والشعبوية. وهكذا يجد المثقف أو الصحفي الشريف نفسه وحيداً في مواجهة جيوش منظمة، بينما تغض المؤسسات الرسمية الطرف أو تشارك في اللعبة أحياناً. والنتيجة: خنق الحرية الفكرية، وإقصاء الكفاءات، وترسيخ ثقافة الخوف والصمت.
هذه المارسات لا تستهدف الأفراد فقط، بل تضرب جوهر المجال العام، فتدفع الناس إلى العزوف عن النقاش خوفاً من التشويه والهجوم، وتخلق مناخاً مشوهاً يهيمن فيه الصوت المصطنع على حساب الصوت الحقيقي. والأخطر أن كثيراً من هذه الحملات يدار بغطاء رسمي أو بدعم قوى سياسية نافذة، فتصبح المنصات ساحات حرب ناعمة تُخاض بالهاشتاغات المدفوعة والإعلانات الموجهة، ويُقصى منها أصحاب الرأي المستقل.
وهكذا يُقاد الرأي العام أحياناً بالانفعال لا بالوعي، وبالعاطفة لا بالعقل، فتُختزل القضايا الجوهرية في صراعات مفتعلة، بينما تتوارى ملفات كبرى، مثل التنمية والتعليم والفساد والعدالة.
إن خطر الذباب الإلكتروني لا يكمن فقط في تضليل الناس فحسب، بل في قتله للثقة بالوسيلة الإعلامية، وحتى بالجار والصديق. وحين تنهار الثقة، تنهار معها القدرة على بناء وعي جماعي قادر على التغيير.
ومع ذلك، أثبتت التجارب أن هذه الجيوش الرقمية، مهما بلغت قوتها، تبقى عاجزة أمام الكلمة الصادقة والفكر العميق. فالتاريخ يحفظ أسماء من تصدوا للتزييف والخراب، بينما يطوي بسهولة جحافل الحسابات الوهمية. ومواجهة الذباب الإلكتروني لا تكون فقط بالفضح والتنديد، بل أيضاً بخلق إعلام حر، وتعزيز ثقافة التحقق من المعلومة، وتشجيع الناس على الثقة بالعقول المستقلة لا بالجيوش المأجورة. فالكلمة الحرة أصدق من ألف حساب مزيف، والتاريخ لا يُكتب بيد الذباب الإلكتروني، بل بأيدي من قاوموا التزييف.
في العراق، تجلَّت هذه الظاهرة بوضوح. فكل من يحاول كشف الفساد أو الدعوة إلى إصلاح سياسي أو اجتماعي، يتعرض لحملات تشويه منظمة تستهدف سمعته ومصداقيته. وغالباً ما يواجه الصحفيون والناشطون المدنيون حملات تخوين وتشهير، ما يضعف ثقة الجمهور بأي خطاب نقدي، ويجعل النقاش العام مرهوناً بسطوة الحسابات المجهولة لا قوة الفكر.
واليوم، ومع قرب معركة الإنتخابات، تنتشر تسجيلات صوتية مزيفة على شكل إعلانات ممولة تُنسب إلى سياسيين عراقيين، الغاية منها التسقيط السياسي والإيقاع بهم، وبالتالي تشويه صورتهم لدى الرأي العام.
الذباب الإلكتروني لن يختفي تماماً، فهو جزء من أدوات الدعاية الحديثة، لكنه يمكن أن يُحاصر ويُضعف عبر إرادة سياسية وتشريعات صارمة تفرق بين حرية التعبير وبين الحملات الممنهجة التي يقودها الذباب الإلكتروني. كما أن الشفافية في نشر المعلومات الرسمية تمثّل سلاحاً فعَّالاً، إضافة إلى التعاون الدولي، إذ إن هذه الحملات غالبا ما تتجاوز حدود الدولة الواحدة.
وتتحمل المنصات (فيسبوك، إكس، إنستغرام وغيرها) جزءاً كبيراً من المسؤولية، إذ يتعين عليها تطوير خوارزميات أكثر ذكاءً لكشف الحسابات الوهمية، وإتاحة أدوات سهلة للمستخدمين للإبلاغ عن الحملات الممنهجة، مع تعزيز الشفافية في الإعلانات السياسية.
أمَّا على مستوى الأفراد، فالمواطن نفسه هو الحلقة الأهم: عليه التحقق من الأخبار قبل مشاركتها، وتجاهل النقاشات العقيمة التي يثيرها الذباب، والتبليغ عن الحسابات المشبوهة. كما أن دعم المحتوى الرصين بالمشاركة والتفاعل يساعد على إعلاء صوت الحقيقة فوق ضجيج الوهم.
إن المعركة الحقيقية ليست تقنية فحسب، بل هي معركة وعي وشفافية وإرادة، تبدأ من الدولة والمؤسسات، ولا تنجح إلاَّ حين يدرك المواطن أن مقاومة التضليل هي مسؤوليته أيضاً.