فاجأ رئيس الحكومة اليابانية، شيغيرو إيشيبا، العالم في السابع من سبتمبر الجاري، باستقالته من منصبه كزعيم لرابع أكبر اقتصاد في العالم، وهو الذي لم يُمضِ سوى أقل من عام في السلطة (تولى زعامة اليابان في العام الماضي، خلفاً لزميله «فوميو كيشيدا»، بعد مرحلة من الاضطراب، تلت اغتيال رئيس الوزراء الأسبق «شينزو أبي»).
وجاءت استقالته وسط خلافات عاصفة داخل حزبه الحاكم (الحزب الليبرالي الديمقراطي، الذي هيمن على الساحة السياسية، وأدار وقاد البلاد خلال معظم سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، باستثناء فترات قصيرة جداً)، حول سياسات الحكومة الاقتصادية، واتفاقية التعريفات الجمركية التي أبرمها إيشيبا مع الإدارة الأمريكية (توصل الجانبان بصعوبة وبعد مفاوضات طويلة، إلى اتفاق تخفض واشنطن بموجبه رسومها الجمركية على المنتجات اليابانية، مقابل تعهد طوكيو باستثمار مبلغ 550 مليار دولار في الولايات المتحدة).
ناهيك عن أسباب أخرى، مثل تذمر وغضب الناخبين من التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة، والتباطؤ الاقتصادي، وعجز الحكومة عن تقديم حلول سريعة، والذي ظهر جلياً في خسارة الحزب الحاكم لأغلبيته في مجلسي البرلمان.
كانت اليابان في الشرق، وإيطاليا في الغرب، أوضح مثالين على عدم الاستقرار السياسي، بمعنى تغير حكومات البلدين وزعمائهما باستمرار، وخلال مدد زمنية متقاربة. ولئن كانت الاستقالات في المثال الإيطالي بسبب تشرذم الأحزاب السياسية وكثرتها، وقيامها بمماحكات، وتغيير تحالفاتها بين عشية وضحاها، من أجل نصيب في كعكة السلطة، فإن الاستقالات في المثال الياباني ظاهرة أخلاقية عميقة الجذور في المجتمع، ونابعة من «ثقافة الاعتذار»، ومبدأ الاعتراف بالفشل، وتحمل كامل المسؤولية عن أي إخفاق، ولو كان صغيراً، بمعايير العالم الثالث.
وهناك أمر آخر جدير بالملاحظة، هو أن تغيير الحكومات في اليابان لا يعني تبدلاً كبيراً في النهج السياسي، أو انهياراً في النظام، أو تراجعاً في الأداء. فالبيروقراطية اليابانية المنضبطة تقوم دوماً ــ وفق عقد اجتماعي معروف ــ بدور رئيس في ضمان استمرارية السياسات الأساسية، بغض النظر عمن يحكم البلاد.
وتقول قائمة زعماء الحكومات التي تشكلت في اليابان منذ الحرب العالمية الثانية، أن أطولهم بقاء في السلطة كان «شينزو أبي»، الذي خدم لثماني سنوات على فترتين، وأقصرهم خدمة، هو «ناروهيكو هيغاشيكوني»، الذي لم يستمر سوى 45 يوماً.
لكن ما تداعيات هذا الحدث الياباني داخلياً وخارجياً؟
داخلياً، قد تؤدي استقالة إيشيبا إلى شلل مؤقت، تزداد معه معاناة الاقتصاد، الذي يشكو أصلاً من رسوم ترامب الجمركية، ومن التضخم والتباطؤ. وللحيلولة دون ذلك، وجّه إيشيبا حزبه إلى الإسراع في إجراء انتخابات داخلية طارئة لاختيار بديل عنه، علماً بأن أبرز الشخصيات المرشحة لخلافته في قيادة البلاد، هما: العضو المخضرم في الحزب الحاكم «ساناي تكايتشي»، المعجبة بالزعيمة البريطانية الراحلة مارغريت تاتشر، والمعروفة بمعارضتها لرفع أسعار الفائدة، وتأييدها لسياسات مالية أكثر مرونة، وابن رئيس الوزراء الأسبق ووزير الزراعة في حكومة إيشيبا المستقيلة «شينجيرو كويزومي»، الذي يعتبر نجماً سياسياً صاعداً، وعلى قدر وازن من النشاط والكفاءة.
غير أن هناك من يقول إنه على ضوء عدم تمتع الحزب الليبرالي حالياً بأغلبية برلمانية مريحة، فقد تؤول زعامة اليابان إلى شخصية من خارجه، لكن أياً تكن هذه الشخصية، فإنها لا تملك سوى الدعوة إلى إجراء انتخابات عامة مبكرة، وهي عملية لا يحبذها أغلبية الناخبين حالياً (نحو 55 %)، طبقاً لاستطلاعات الرأي، بل لا نعتقد أنها فكرة جيدة، لأنها قد تؤدي إلى تراجع أكبر لنفوذ الحزب الليبرالي، وشريكه «حزب كوميتو» الصغير، لصالح بروز وتنامي قوة بعض الأحزاب الشعبوية والمتطرفة، مثل «حزب سانسيتو» القومي المناهض للهجرة، و«حزب ريوا شينسينغومي» اليساري، على غرار ما حصل في ديمقراطيات أوروبية.
خارجياً، لا شك أن لحدوث فراغ أو شلل سياسي في اليابان، انعكاسات أبعد من حدودها، كونها رابع أكبر اقتصاد في العالم، وقوة صناعية وتكنولوجية معتبرة، ودولة حليفة للولايات المتحدة، وصاحبة موقع في النظام الدولي. وتنبع المخاوف تحديداً من احتمال أن تؤدي الخلافات داخل الحزب الليبرالي أو بينه وبين خصومه، إلى سياسات أكثر تشدداً ضد الصين والكوريتين، وبما يفاقم التوترات الحالية في منطقة الشرق الأقصى.
ونختتم بالقول إن الحزب الليبرالي الديمقراطي، في مرحلة ما بعد إيشيبا، أمام منعطف خطير، يستلزم منه التجديد والتغيير والتكيف مع واقع سياسي جديد، كي يبقى محافظاً على دوره التاريخي في ضمان استقرار اليابان، واستمرارية نظامها الديمقراطي وسياساتها الرزينة.