عن خطة ترامب مرّة أخرى.. غزة وفلسطين بين الرفاهية الصفرية وإعادة تعريف الإجماع

2

حازم حسين

 

عاد الحديث عن الإجماع؛ وإن كان مشوّها وملوّنا بالأيديولوجيا. لا شىء يعبر عن مقدار الضغوط الواقعة على حماس، أكثر من أنها تستنجد بالآخرين من الفصائل الرديفة، وهو ما لم يكن معروفا من سلوكها طيلة السنوات الماضية، والغالب أنها لا تلجأ للآخرين اليوم عن قناعة بالديمقراطية، ولا عن إيمان عميق بالشراكة والتوافق؛ بل لرغبة فى أن تغسل يديها من القرار استباقيا، وأن تُدخل بقية الطيف الغزى فى زُمرة المسؤولية عما آلت إليه الأحوال.

لم يُعرف عن الحركة أنها تُشرك غيرها فى شأن غزة، السلطة العليا لها حصرا، ونطاق التحرّك من خارجها محسوب ومحدود؛ فإما يُترَك لغرض أو يُقمع لمصلحة.

وهكذا سارت الأمور منذ الانقلاب على السلطة الوطنية، والهيمنة الانفرادية المطلقة على القطاع بدءا من صيف العام 2007، وتجلّت بدرجة أكبر فى «طوفان السنوار» قبل سنتين، وتعاظمت بعدها على طول شهور الحرب والتفاوض، بل سبق أن نأت بنفسها عن فعل المقاومة أصلا، وتركت حليفتها «الجهاد الإسلامى» تتلقى الضربات فى صدامين سابقين، وما ساندتها قتالا ولا استدركت عليها بالسياسة.

كان الحدث النكبوى الأخير قسّاميًّا بالكامل، ولا دليل على أن القوى المُسلّحة من بقيّة الحركات كانت حاضرة على طاولة الترتيب للطوفان؛ بل إن أرفع الأسماء فى المستوى السياسى لحماس فوجئوا بالعملية، وتلقّوا تفاصيلها مع عامة الناس عبر وسائل الإعلام. أما الإدارة اللاحقة للتداعيات فلم تختلف عن المقدمات، وظلّت ولاية معقودة للتنظيم فى مائه الصافى، بثِقَل أكبر لفريق البنادق والخنادق، على حساب فريق السياسة والفنادق.

وأوّل ما طُرِحت فكرة الورشة الموسعة، كان قبل أسابيع قليلة من الآن. عندما تعقّدت الخيوط بشأن ورقة المبعوث ستيف ويتكوف فى نسختها المُعدّلة قطريًّا، وسعى خليل الحية ورجاله إلى التزحزح عن الرفض السابق إلى القبول؛ من دون أن يتحمّلوا كُلفته الكاملة وحدهم، أو تبدو منهم رخاوة إزاء العدوّ، أو اعتراف ضمنى بخطيئة التجربة من فاتحتها إلى الختام.

والديناميكية النسبية هنا يُراد منها الشكل لا المضمون؛ بدليل أن سلطة رام الله لم تُدعَ إلى البحث فى العروض المطروحة، ولا لعب أدوار عملية ظاهرة تتساند إلى شرعيتها القانونية والدولية؛ بل اكتُفِى بالدائرين فى الفلك الحماسىّ، ومَن يبصمون على مُخرجات الفصيل الغزّاوى الأكبر، بأختام وتلاوين تشى بالتنوّع وامتداد الملاءة الشعبية.

واستدعاء الحالة نفسها فى النظر لخطّة ترامب الأخيرة؛ يشتمل فى باقة الاحتمالات على رغبة فى تمرير المحنة الخاصة تحت سقف المسؤولية المُعمّمة، وإجبار الجميع على أن يتجرّعوا كأس السم مع الحركة. أى أنها تنزل عن أصولها الراسخة احترامًا لرأى الأغلبية، ومن ثمّ لا يجوز أن تُلام فيما يُحمَل على التفريط، ولا أن تُحاسَب بالطبع على ما قاد للانسداد؛ لأنها لم تُمكّن من إدارته برؤيتها الكاملة حتى نقطة النهاية.

ويظل التأويل مفتوحًا على العكس أيضًا؛ بمعنى أنها ترفض الشروط المُجحفة لها، ولو كانت فى صالح الغزّيين غير المؤدلجين؛ إنما لا تُريد أن تستكمل لعبة المُقامرة بالكل على الجزء، وتتقصّد أن يُساق الرفض من قناة تخص بيئة القطاع وتمثّلاتها المتعددة، وبحيث يتفرّق دم التصلّب بين القبائل والتيارات، ولا يُنسَب إليها أنها تضع نفسها ومصالحها فوق آلاف النفوس ودون أولويات الصالح العام.

والإشكالية الكُبرى فى الظرف الراهن؛ ربما تتّصل بتصوّر الحركة عن الخطة الأمريكية، وحدود استيعابها فى العموميات والتفاصيل على وجهها الصحيح. وهو ما سيتجلّى فى موقفها المُرتقب ردًّا على العرض، وما إذا كان رفضا أم قبولا أم ترحيبا مع التحفظ. ولا معنى هُنا لكثافة الحشد الفصائلى؛ لأن العبء الأكبر يقع على كاهلها وحدها، والموازنة بين أهدافها وشواغل القضية؛ بالنظر إلى أن أهداف الاحتلال تتحقَّق بالحرب كما بالتهدئة.

والحال؛ أنها رؤية لتفكيك حماس لا انتشالها من وهدة الضياع. وأقرب إلى الصفقة المُغلقة بمنطق «خُذه كاملا أو اتركه كاملاً»، وليست مُجرّد اقتراح يجترح أفكارًا عامّة عن التسوية، ويُرسى أساسًا للتفاوض عليها، والاشتباك فيها جرحًا وتعديلاً. ما يعنى أن الردّ يجب أن يكون محسوبًا بدقة، وصادرًا عن عقول باردة، وألا يُغلِّب الانفعال على الفاعلية، أو يتعجّل تضييع الفرصة دون دراسة، وإرخاء الذرائع للصهاينة دون حذر واحتياط.

غزّة مُعلّقة اليوم فى حبلٍ واهٍ، تُفكّك النار عُراه، ويتآكل بثِقَل المأساة الإنسانية المتضخّمة. وإذا كانت تنزلق منذ سنتين كاملتين من سيئ إلى أسوأ؛ فليس مأمولاً أن تتعدّل أحوالها البائسة بتقطيع الوقت وانتظار المجهول، وكل ما تُبشّر به الأيام مزيد من القتلى والجوعى والكافرين بالقضية وفصائلها، وشروط أقسى ستُستَبدَل بالنسخة القاسية، ومخاطر أقرب إلى الوقوع لجهة الإزاحة الديموغرافية، أو ابتلاع الأرض بمَن عليها.

ومع سيولة الفكرة الترامبية، وانطلاقها من صياغات فضفاضة، غير مجدولة زمنيًّا، ولا مشمولة بمعايير وضمانات واضحة؛ فإن أثمن تنص عليه أن يظل القطاع لأهله، وأن يُبعَد عنهم شبح التهجير؛ ولو بدا أن المطروح يُلامس أطراف «الريفييرا الشرقية»، ويُحلّ الاقتصاد بديلاً عن السياسة والتسوية النهائية. فإن لم تكن جاهزًا للحسم؛ فلا ضرر من تأجيل المواجهة.

ومعنى التأجيل ينصرف مباشرة إلى حراسة الوجود الفلسطينى على أرضه، وإعادة تطبيع علاقة المنكوبين فيها مع الحياة، بما يسمح بإنعاش الفكرة الوطنية وتجديد دماء مشروعها النضالى بالوسائل كافة، وعلى مُرتكز أكثر وعيًا واستيعابًا للتجارب ودروسها، ولحين أن تتحسّن الظروف رهانا على استثمار الاستفاقة الدولية، أو تعويلاً على وَصل المُنقطِع ومُداواة الاختلال العارم فى التوازنات الجيوسياسية للمنطقة حاليا.

أثبتت حماس أنها لا تعرف الصالح، أو لا تعرف القضية نفسها على وجه دقيق. ما تزال منقوعة فى سردية الوقف الإسلامى من النهر للبحر، على الرغم من تعديل وثيقتها الاستراتيجية فى العام 2017 لتتقبّل فكرة الدولة المُستقلة على حدود يونيو 1967.

اقتطاع غزّة من الجسم الوطنى كان عملاً عدوانيًّا بحق فلسطين كلها، والانخراط فى محور المُمانعة بأهدافها العرقية المُعمّى عليها بالأيديولوجيا، والطوفان الذى قامر بكل شىء على لا شىء تقريبًا. وأخيرًا إنكار الهزيمة، ومواصلة التعاطى بمنطق المُنتصر، فيما يُهزَم الغزّيون كل يومٍ ويتآكل وهج الوطن الضائع فى أرواحهم.

نجح نتنياهو فى تزييف الوقائع مُبكّرًا. ضُخِّمت هجمة الغلاف؛ لتحرف أنظار العالم عن كُلفة الاحتلال وصحيفة سوابقه المُتطاولة. وبادر إلى وَصل الساحات وتوحيدها؛ رغم تقاعس أصحاب الشعار أنفسهم عن ذلك، لتسقط غزّة فى قاع المشهد، وتُردَم برُكام المعارك والمُناكفات من الشام إلى اليمن قفزًا حتى إيران. ثمّ أحكم قبضته الخانقة على أعناق الغزّيين؛ ليُصدِّر الأزمة للخارج تحت عنوان «الكارثة الإنسانية»، ويُبقى الجميع حائرين فى التوفيق بين المُتناقضات.

كان الاختلاف مع نظام الأسد فى سوريا على الممر المفتوح من طهران إلى ضاحية بيروت الجنوبية، واليوم غاية دمشق أن تتنفس هواء نظيفًا، بينما تختنق باحتلالين من الجنوب والشمال، ويجثو على أنفاسها تيّار أصولى لم يرسو على مُشغّليه الجُدد بعد. وحزب الله يعود مكسورًا من الجبهة؛ لكنه مُصرّ على توظيف فائض القوّة ضد لبنان/ الدولة والشعب، وبالمثل تتطلّع حماس للخروج من النار بملابس مُهندمة ومقعد محجوز على طاولة اليوم التالى، أو على الأقل ثغرة تسمح بالنفاذ إلى الإدارة الجديدة أو إرباكها.

تحرّكت الأرض تحت أقدام المُمانِعين؛ لكنهم يُكابرون بانفصال كامل عن الواقع. يرفضون أن يأخذوا علمًا صحيحًا بالمُستجدات، ويُقيمون فى الماضى كعادتهم. ولا سبيل لاتّصال الهلال الشيعى المكسور عند الخاصرة السورية، أو أن تعود دويلة الحزب حاكمًا فوق الدولة اللبنانية، كما لا مجال للحماسيِّين أن يظلّوا حاضرين فى غزة؛ إلا لو بقيت ردمًا مُسيّجًا بالنار، ومطروحًا على طريق المجهول.

وإذا كان للولايات المُتّحدة أن تقدم نفسها كيفما شاءت، وأن تدّعى الوساطة فى مقام الانحياز الصريح؛ فإن على الآخرين أن ينفذوا بأبصارهم وبصيرتهم إلى جوهر المأزق الذى يعيشونه، وأن يروا الأمور على حقيقتها من دون مُحسّنات أو افتراضات ساذجة.

ترامب يلعب لحساب نتنياهو، وخطّته صِيغَت بمنطق المنتصر، ولأجل استيفاء عوائد النصر. والرسالة واضحة للغاية، قالها سفاح الليكود من داخل البيت الأبيض، ورددها شُركاؤه وتابعوه من قلب تل أبيب: «سننجز المهمة؛ بالطريقة السهلة أو الصعبة».

والخطر كله أن المهمة نفسها سائلة وتتشكّل بحسب السياق؛ إذ كانت القضاء على حماس واسترداد الرهائن أوّلاً، ثم اتّسعت لخمسة أهداف منها السيطرة العسكرية وألا تكون السلطة الوطنية بديلاً فى القطاع، ومن وراء ذلك سِيقَت دعاوى ومُخططات التهجير قسرًا أو طوعًا.

وبعيدًا من شعارات الصلابة والثبات، وما يطاله المُحتل أو يستعصى عليه؛ فإن الاختيار ليس بين احتلال واستقلال، ولا بين إعمار وخراب، بل بين عدم وجود؛ وفى أشد إخفاقات الجُناة وأحسن خيارات الضحايا؛ أن يكون وجودًا باهتًا هو والعدم سواء.

كانت حماس مربوطة بحبل حريرى مع نتنياهو، ويسيران بالتوازى فى علاقة طردية. صعدا معًا على جُثّة أوسلو، وكلما تردّى خطاب السلام كانا يزدادان صعودًا ولمعانا. لكن الطوفان حلّ بتأثيرات فيزيائية كسرت المُعادلة المُستقرة، وحوّلت الوشائج ما بين الطرفين إلى صيغة عكسية نافرة، بحيث يتقوّى الواحد منهما بضعف الآخر، ولا تكون له حياة إلا بإفناء الغريم تمامًا.

تصعيد الحركة زكّى خطاب اليمين؛ فاغتيل رابين وحلّ نتنياهو بدلاً منه، وصخب الأخير أضاف لبريق الجماعة الإخوانية، وعزّز حضورها الشعبى وصولاً إلى صناديق الانتخاب، ثم الاستبداد بالبندقية وخناجر الوصم والتخوين. وهكذا ظلّا يتخادمان لثلاثة عقود تقريبًا؛ لكن انقلاب المُعادلة وقع فى السابع من أكتوبر، عندما أطلق السنوار رصاصته على شريكه اليمينى فى الجانب الآخر، استغلالاً للحظة الانكشاف أمام الشارع؛ فأعاد ترميم صفوفه بدلاً من نقضها، ومنحه كنز الإجماع المفقود.

اليوم لا يختلف معه أحد على الموقف من الفصائل؛ بل الجدل فى كُلفة الحرب من دون أفق سياسى، وفى التطلّع إلى استرداد الأسرى ثم ليكن ما يكون. أما حماس فإنها فى مواجهة قديمة مع السلطة بأثر العدواة والإضعاف، ومع بيئتها الحاضنة بعد كل ما تسبب فى إيقاعه بها، ثم مع المحيط العربى الذى يُسدِّد تكاليف المُقامرة النزقة، ولا يجد منها إلا إعراضًا وتعريضًا، واستمراء للعب من حيِّز الميليشيا، وتناسى ما يقع على عاتقها من التزامات سياسية؛ أقله لأنها حكومة الأمر الواقع التى تُسأل فى مأساة القطاع قبل غيرها، بل دون الآخرين جميعًا.

بدأ العسف بغزّة والقضية كلها، عندما رُبِطا قهرًا بالحركة وامتداداتها الخارجية. فتيسّر الآن لنتنياهو أن يُحارب فلسطين كلّها مُختزلة فى صورة حماس، وأن يقتفى أثر القسّاميين مُطمئنًا إلى أنه يُخلخل المشروع الوطنى للدولة الفلسطينية بكامله. ولا شىء يتقدّم اليوم على فك الارتباط بين الرايتين، وإبعاد الأيديولوجيا عن الأجندة الوطنية. وبمعنى آخر؛ أن العالم يعترف للشعب المنكوب بدولته المُستقلة، ويتبقى أن يعترف بها الحماسيّون.

لم يقع التهاوى دفعة واحدة؛ إنما جاء بالتتابع على دفعات. تشغيب ومُزايدة؛ فاستلاب للإرادة الشعبية تحت وطأة الشعارات، ثم انقسام تُوجّهه الولاءات الخارجية وتحرسه بنادق الداخل المُلوّنة. ولن يُصار إلى الترميم إلا بذات الطريقة؛ أى أن تعود الحركة من المسار الذى سلكته بالإيقاع والتدرّج نفسيهما، فتعتذر لشعبها عن خطيئة الطوفان وتعقد له الولاية الخالصة على شؤونه، ثم تخرج من التشظّى لتدخل تحت عباءة منظمة التحرير، وتُعيد بناء مُدوّنتها بما يستجيب للمشتركات العامة، ولا يُحكّم فيها الزبائنية ومروحة العلاقات مع الرجعية الإخوانية أو الميليشاوية الشيعية المُسلّحة.

والتداوى يتهدّد البيئة المُفكّكة بالسيولة والأخطار؛ لكن الأمراض العضال أشد خطرًا عليها من دخول فترة النقاهة.

غزّة فى فوضى لن تزداد كثيرًا بغياب حماس، وانتداب إدارة دولية لن يكون أشد تهديدًا من أحذية الاحتلال ومُجنزراته. كل الأفكار السوداء التى يُتحَسّب منها فى أيّة خطة للتسوية مُتحقّقة بالفعل؛ بل بدرجة أسوأ، وإذا وقع التسليم بأنه لا سبيل لاستدراك ما فات، ولا للعودة لِمَا قبل الطوفان؛ فأى بديل لا تكون فيه غزة لُقمة سائغة لعدوّها، أفضل من كل ما وعد به الحماسيّون وأخلفوه، ويُكابرون فى الاعتراف به، ولا يعرفون وصفةً للخروج من متاهته الدامية.

خطة ترامب صِيغَت بالعبرية وتُرجِمَت إلى الإنجليزية. لا عاقل يجرؤ على ادعاء المثالية فيها، أو الحدّ الأدنى من العدالة؛ لكنها خيار الضرورة المطروح، والمخرج الذى لا تتوفر عنه أية بدائل مُمكنة. صحيح أنها غامضة فى مسائل أساسية تخصّ القضية؛ لكنها لا تُصرّح على الأقل بالخيارات الأشد ضراوة وإجهازًا على الدولة المأمولة، وطالما أنك لا تمتلك الخرائط ولا السفينة؛ فليس بإمكانك إلا أن تلتحق بالرحلة المُتاحة، وتحتمل ما ستقودك إليه تجاذبات الرياح مع الملّاح.

أعدّ سيد البيت الأبيض ورقةً لصالح حليفه؛ فيما غاب حلفاء حماس عن الدراما منذ المشهد الأول. إنها أطروحة لاستيفاء كُلفة الهزيمة من الحركة، وليس عمَا جرى من وقائع القطاع فحسب؛ بل هزائم شُركائها فى محور المُمانَعة أيضًا. يُحصّل الصهاينة مكاسبهم مرّتين؛ ويُحمّلون الغزّيين أعباء السنوار وحسن نصر الله والأسد والحرس الثورى والحوثيين، والعكس أيضًا.

خيارات الحيّة ووفده المفاوض معدومة تماما، ورفاهيتهم فى رفض الخطّة تكاد تكون صفرًا؛ لأن الحركة بلا رُعاة تقريبًا، استنفدت رصيدها فى البيئة الفلسطينية، وأزعجت مُحيطها بما فيه الكفاية، وحتى المعترفون بفلسطين اشترطوا إبعادها فى صيغة الاعتراف، وأقرب أصدقائها القُدامى فى الدوحة وأنقرة، ربما يُحاولون إقناعها اليوم بأن تتجرّع كأس السمّ.

الرفض يُظهرها فى صورة المُتعنّت، ويُديم الحرب بمزيدٍ من الخسائر؛ ثم تشديد القيود والشروط. والبديل أن تُناور بين القبول وطلب الضمانات؛ لكنها حالما تصطدم بأنها خطة مُغلقة وليست أساسًا للتفاوض، سيكون عليها أن تحزم حقائبها، أو تحسم أمرها بالانتحار. مع معرفة أن الإرادة الشعبية فى فلسطين، والقطاع تحديدًا، تذهب إلى أى خيار يُوقِف المقتلة التى تدخل عامها الثالث خلال أيام.

تنص الخطّة على ثلاثة أيّام منذ إعلان إسرائيل عن قبولها علنًا، وقد زاد السيد دونالد هامشها يومًا رابعًا، ولوّح من بعد ذلك بالجحيم وإطلاق يد نتنياهو؛ كأنها لم تكُن مُطلقةً أصلاً! والحركة بين سندان الاحتلال، ومطرقة الوسيط الأمريكى المُنحاز. فضلاً على الخلخلة النفسية العميقة؛ كونها تأتى بعد تحييد صقور القسّام قتلاً، وترويض حمائم التفاوض بمحاولة الاغتيال فى الدوحة. ما يجعل الحركة فى أسوأ أوضاعها على الإطلاق، لا ميدانيًّا فقط؛ بل على صعيد الهيكلة والعقيدة وثقة القادة فى أنفسهم ومُعاونيهم أيضًا.

مؤخّرًا دعا علاء البطّة، رئيس بلدية خان يونس وأحد قادة الحركة، إلى تجرّع السمّ بقبول الخطة، وتشكيل وفد تفاوض مع السلطة لضبط ما يحتاج من البنود، أو تسليم ملف القطاع إلى اللجنة الوزارية العربية الإسلامية. وطبيعة حماس المُغلقة لم تكن تحتمل هذا النفور، ولا أن يخرج صوت منها على الإجماع؛ لكنه التشظّى وتداعى الهياكل وانحلال القيادة المركزية الموحّدة على ما يبدو.

الخيار السياسى؛ على ما فيه من مآخذ وملاحظات، لن يصل إلى نقطة أسوأ مِمّا اقتيد إليها القطاع بالحرب والسلاح. ربحت إسرائيل فى التكتيك، وخسرت فى الاستراتيجية؛ لكن حماس تخسر فى الاثنين، ويجب أن تُجنّب القضية مغبّة الخسارة معها إلى مدى مفتوح.

ومهما كانت ميادين القتال شرسة ومُتقلّبة؛ فالرابح مَن يربح بالسياسة فى آخر المطاف، والخطّة الرديئة كما يراها البعض ربما تكون فرصة لهزيمة نتنياهو؛ إن بإنهاء طموحه فى احتلال غزّة وتهجير أهلها، أو بوضعها أمام استحقاقات المُساءلة عن الإخفاق والبحث فى قضايا الفساد.

والأهم أن الفلسطينيين سيتوفّر لهم مُتّسع للتعافى والتقاط الأنفاس، واستعادة الثقة فى أنفسهم، وتحويل دروس المُعاناة إلى ذخيرة تُصلّب العزائم، وتُطوّر النضال وتضبطه، بالتعقُّل والرُّشد واستقراء الظروف وتبدّلاتها، وبالإجماع والمظلّة الواحدة أوّلاً وأخيرًا.

التعليقات معطلة.