نجوى عبداللطيف جناحي
عِندَما يطرق سمعنا اسم الشاعر الدمشقي نزار قباني، يتبادر إلى أذهاننا قصيدة قارئة الفنجان، أو قصيدة زيديني عشقًا زيديني…، وقصائد غزليَّة أخرى لطالما تغنَّى بها أشهر المطربين، ولا يفتأ الناس من ترديدها، عِندَما نسمع اسم الشاعر قبَّاني يتبادر إلى ذهننا لقبه الَّذي منحه الناس وهو: شاعر الحُب والمرأة. لستُ أدري أهذا اللقب أنصف قبَّاني؟!! أم أنَّه يعطي انطباعًا أنَّه شاعر الغزل فقط؟!! لستُ أدري هل منَح هذا اللقب قبَّاني سمعة إيجابيَّة أم سلبيَّة؟!!! مسكين أنتَ يا قبَّاني، فلا يذكر الناس من شعرك إلَّا قصائد الحُب والغزل، ونسوا قصائدك الوطنيَّة الَّتي تدلُّ على أنَّك رجُل يحمل هموم قومه وأُمَّته، نسوا أنَّك شاعر وطني، فشِعرُك يندرج تحت مفهوم الشِّعر السياسي والاجتماعي الَّذي يعالج قضايا الأُمَّة العربيَّة وهمومها، ويتجاوز مجرَّد التَّغنِّي بالوطن إلى نقد الواقع وتجاوز النكسات من خلال الدَّعوة إلى التضامن والحُريَّة. لَعمري إنَّها أزمة المثقَّف العربي الَّذي ينشغل بشِعر الغزل والعشق، ويغمض أجفانه عن شِعر يحمل قضايا أُمَّته، وتزداد الأزمة ويكبر حجمها كما تكبر كرة الثلج كُلَّما تدحرجت أنَّه يصف هذا الشاعر القومي العربي بأنَّه شاعر الغزل ولم يمنحْه لقَبًا يدلُّ على أنَّه شاعر وطني، لِتتناقلَ الأجيال هذا الانطباع عنه، فما أعجب المثقَّف العربي الَّذي يوقِع سيف الظلم على دواوين قبَّاني؟!!
فما زال الناس يرددون قصيدة قارئة الفنجان، ومحبوبته الَّتي ترقص حافية القدمين، ونسوا أبرز قصائده الوطنيَّة الَّتي صدح بها عام 1967 كردِّ فعلٍ مباشر على الهزيمة العربيَّة الكبرى في حرب الأيَّام الخمسة (حرب 1967)، فقد كتبَها قبَّاني لِيعَبِّرَ عن ألَمِه وتفكُّكِه، وليكشفَ عن عيوب الأُمَّة الَّتي أدَّتْ إلى تلك الهزيمة، ودعا إلى المواجهة الصادقة لتلك العيوب بدلًا من التواري عنها، وقد أحدثت القصيدة جدلًا واسعًا وأثارت ردود فعل كبيرة في الوطن العربي، بما في ذلك منع تداول دواوين الشاعر نزار قبَّاني في مصر. فقد قال فيها:
يا وطني الحزين
حولتني بلحظةٍ
من شاعرٍ يكتب الحُب والحنين
لشاعرٍ يكتب بالسكين
ثم يسترسل فيقول:
وأننا لم ندفن الوحدة في التراب
لو لم نمزق جسمها الطري بالحراب
لو بقيت في داخل العيون والأهداب
لما استباحت لحمنا الكلاب..
نعم.. ما زال الناس يترنمون بقصيدة زيديني عشقًا زيديني يا أحلى نوبات جنوني، والَّتي غنَّاها الفنَّان الكبير كاظم الساهر، فما زالوا يتغنَّون بها، ولا تفتأ وسائل الإعلام من تكرار نشرها حتَّى حفظها الناس، ويا حسرتي عِندَما نجد أنَّ الجمهور نسوا قصيدته (في مدخل الحمراء كان لقاؤنا) تلك القصيدة الَّتي غنَّاها ذات الفنَّان المشهور كاظم الساهر، إلَّا أنَّها لم تلقَ رواجًا كما لقَتْه سابقتها، بل إنَّك تشكُّ أنَّ الجمهور قد سمع بها، مع أنَّ هذه القصيدة من روائع الشِّعر العربي حتَّى أجمع النقَّاد المعاصرون أنَّ قبَّاني تفوَّق في تصاويره الشعريَّة على امرئ القيس في قصيدته «وليل كموج البحر أرخى سدوله»، ففي هذه القصيدة رثى قبَّاني بحُرقة وأسًى الأندلس وما بها من أمجاد، بكلمات تدلُّ على عُمق مشاعر العروبة لدَيْه وصِدق وطنيَّته. فكلماته الصَّادقة تصل للقلوب فتحرِّك مشاعر الحسرة على ضياع الأندلس. فقَدْ كتَب نزار قبَّاني هذه القصيدة، وهو في إسبانيا لمَّا التقى عِندَ مدخل قصر الحمراء بفتاةٍ إسبانيَّة تفخر بتراث أجدادها وحضارتهم، ممَّا أثار لدَى قبَّاني مشاعر الحزن على ماضي العرب العريق في الأندلس، فاستحضر لنا أمجاد العرب في الأندلس؛ تلك المشاعر الوطنيَّة الجيَّاشة جعلته يبدع في هذه القصيدة فيقول:
هل أنت إسبانيَّة؟ ساءلـتها
قالت: وفي غـرناطة ميلادي
غرناطة؟ وصحت قرون سبعة
في تينـك العينين.. بعد رقاد
وأمـيَّة راياتـها مرفوعـة
وجيـادها موصـولة بجيـاد
ما أغرب التاريخ كيف أعادني
لحفيـدة سـمراء من أحفادي
…..
ومـشيت مثل الطفل خلف دليلتي
وورائي التاريـخ كـوم رمـاد
الزخـرفات.. أكاد أسمع نبـضه
والزركشات على السقوف تنادي
قالت: هنا «الحمراء» زهو جدودنا
فاقـرأ على جـدرانها أمجـادي
أمجادها؟ ومسحت جرحًا نـازف
ومسحت جرحًا ثانيـًا بفـؤادي
يا ليت وارثتي الجمـيلة أدركـت
أن الَّذين عـنتـهم أجـدادي
عانـقت فيهـا عِندَما ودعته
رجلًا يسمـى «طـارق بن زياد»
ولعلَّ المثقّف العربي نسِيَ قصائد هذا الشاعر الوطني الَّتي تتناول قضيَّة الوطن في قصيدة «عِندَما حان وقت الرحيل عن الوطن»، والَّتي كتَبها في سياق الابتعاد عن الوطن، ونسِيَ قصيدته الرائعة: الدمشقيَّة حيثُ يقول:
هذي دمشق.. وهذي الكأس والراح
إني أحب… وبعـض الحـب ذباح
أنا الدمشقي.. لو شرحتم جسدي
لسـال منه عناقيـدٌ.. وتفـاح
ولو فتحـتم شراييني بمديتكـم
سمعتم في دمي أصوات من راحوا
زراعة القلب.. تشفي بعض من عشقوا
وما لقلـبي ـ إذا أحببـت ـ جـراح
مآذن الشـام تبكـي إذ تعانقـني
وللمـآذن.. كالأشجار.. أرواح
ألا يجدر بِك أيُّها المثقَّف العربي أن تقف أمام قصيدة: (ياست الدنيا يا بيروت) والَّتي غنَّتها ماجدة الرومي، لِتكُونَ تلك القصيدة إضافة إلى إبداعات الفنِّ العربي شعرًا وتلحينًا وغناءً؟!!
يا ستَّ الدنيا يا بيروتْ…
مَنْ باعَ أسواركِ المشغولةَ بالياقوتْ؟
من صادَ خاتمكِ السّحريَّ،
وقصَّ ضفائركِ الذهبيَّة؟
من ذبحَ الفرحَ النائمَ في عينيكِ الخضراوين؟
من شطبَ وجهكِ بالسّكّين،
وألقى ماءَ النارِ على شفتيكِ الرائعتينْ؟
من سمّمَ ماءَ البحرِ، ورشَّ الحقدَ على الشطآنِ الورديَّة؟
ها نحنُ أتينا.. معتذرينَ.. ومعترفينْ
ألم تقفْ أيُّها المثقَّف العربي أمام قصيدة «متى يعلنون وفاة العرب» فهي قصيدة تدلُّ على مدى تفاعل قبَّاني مع هموم الأُمَّة، وإصراره على أن يكُونَ شعره صوتًا لأبناء قومه فيقول:
أنا منذُ خمسين عاما،
أراقب حال العرب.
وهم يرعدون، ولا يمطرون…
وهم يدخلون الحروب، ولا يخرجون…
وهم يعلكون جلود البلاغة علكا
ولا يهضمون…
ثم يواصل نظم أبياته فيقول:
أحاول منذُ بدأت كتابة شعري
قياس المسافة بَيْنَي وبَيْنَ جدودي العرب.
رأيت جيوشا… ولا من جيوش…
رأيت فتوحا… ولا من فتوح…
وتابعت كل الحروب على شاشة التلفزه…
فقتلى على شاشة التلفزه…
وجرحى على شاشة التلفزه…
ونصرٌ من الله يأتي إلينا…على شاشة
أيُّها المثقَّف العربي يا من لقَّبْتَ قبَّاني بشاعر الحُب والمرأة، ألَمْ تقرأْ قصائد قبَّاني عن فلسطين؟ ألَمْ تقرأْ قصيدة: بكيت حتَّى انتهتِ الدموع، تلك الرائعة الشعريَّة الَّتي أضافت للشِّعر العربي وسطَّرت صفحات من تاريخ العرب، تلك الرائعة الَّتي تُعَبِّر عن تلك الجروح الَّتي تسكن قلب الشاعر وتنزف دمًا على ما يجري على أرض عربيَّة؟ ألا تشهد له أيُّها القارئ العربي أنَّه شاعر وطني وليس شاعر العشق والنساء؟!!
يا قدسُ، يا مدينةَ الأحزان
يا دمعةً كبيرةً تجولُ في الأجفان
من يوقفُ العدوان؟
عليكِ، يا لؤلؤةَ الأديان
ألَمْ تقرأْ قصيدة أطفال الحجارة حين قال:
فقصَّة السَّلام مسرحيه..
والعدل مسرحيه..
إلى فلسطين طريقٌ واحدٌ
يمر من فوهة بندقيه..
وبعد أيُّها المثقَّف العربي!! وبعد أن وقفت على بعض روائع شعر قبَّاني الوطنيَّة الَّذي تدلُّ على عُمق مشاعر العروبة لدَيْه وصِدق إخلاصه لأرضه، واعتزازه بتاريخ أُمَّته العربيَّة، بعد أن رأيتَ كم تركتْ هذه القصائد من أصداء في زمنه، أيستحق لقَبَ شاعر الحُب والمرأة؟ أم أنَّه شاعر العروبة والبيان؟ نعم.. لقد أثرى قبَّاني الأدب العربي بدواوين شِعره الوطني، الَّتي أبدع فيها أكثر من إبداعه في قصائد الغزل، فالإشكاليَّة ليستْ إشكاليَّة شاعر أو كاتب أو حتَّى رسام أو مصوِّر، فالإشكاليَّة إشكاليَّة مثقَّف عربي، يستهويه أغراض الشِّعر وأغراض الفنون العاطفيَّة، ويبتعد عن أغراض الشِّعر الَّتي تخاطب العقل والمنطق فتثير قضايا مهمَّة، وتُعَبِّر عن هموم الأُمَّة، لقد صدَّ المثقَّف العربي عن هذا النوع من الأغراض الفنيَّة حتَّى خشينا أن يأفلَ نجمها، والخوف كُلّ الخوف أنَّ اهتمام الجمهور بالموضوعات العاطفيَّة وانصرافهم عن الموضوعات الفكريَّة تحفِّز الشعراء والكتَّاب والفنَّانين على أن يكثروا من إنتاج الموضوعات الَّتي يرغب فيها الجمهور، لنتفاجأ في نهاية المطاف أنَّ موروثنا الثقافي باتَ ضحل الفكر ضيِّق الأُفق، فنخجل من أن نورثَه للأجيال… والآن هل لي أن أقول: دُمْتُم سالِمِين؟!!
نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري