السلام من أرض السلام

4

فؤاد مطر

ثمة وجهة نظر أميركية منصفة في مقابلة صحافية، أغسطس (آب) 1979، وردت فيها للرئيس جيمي كارتر العبارة الآتية: «القضية الفلسطينية تُشبه حملة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة». ولمجرد نشر المقابلة متضمنة هذه العبارة الموضوعية قامت قيامة «اللوبيات» الصهيونية على أنواعها ضد الرئيس، ثم بلغ الغضب عليه أشده وأتى من مناحيم بيغن الذي أوجزه في تصريح: «إننا موجودون ولا نتطلع لأن يعترف أحد بوجودنا. إنها إهانة للإدراك…».

وجهة نظر الرئيس الأميركي (التاسع والثلاثين) قالها قبْل نحو خمسة أشهر من استضافته الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الحكومة الإسرائيلية مناحيم بيغن، ونجاحه في جمْع الجانبين على ما عُرف بـ«معاهدة كامب ديفيد» التي جرى يوم 26 مارس (آذار) 1979 توقيع السادات وبيغن عليها وكذلك توقيع الرئيس كارتر، أما سائر القضايا فيصار إلى معالجتها، وها هي ما زالت قيد المعالجة الأميركية وستبقى عالقة إلى أن يأتي رئيس أميركي يكون الرئيس العدل الذي إذا تصرّف بوصفه وسيطاً يعتمد الحياد، وبذلك لا ينحاز مائتين في المائة إلى جانب الطرَف المعتدي تاركاً للطرَف المُعتدى عليه، وهو هنا القضية الفلسطينية بكل مآسيها وفواجع الناس، اهتماماً رمزياً.

نقول ذلك في ضوء القراءة المتأنية للمبادرة العشرينية التي طرحها الرئيس ترمب، والتي أصلاً ما كانت لتشق طريقها نحو إمكانية الحل لولا الإشادات العربية والإسلامية بها. وهي من منطلق إبقاء عزيمة الرئيس ترمب عليها، بحيث لا تتأثر بعناد رئيس الحكومة الإسرائيلية، كما أنها بأمل إلحاق المبادرة الغزاوية، بمبادرة بروحية ما قاله الرئيس كارتر الذي هو رمز تحويل المستحيل إلى ممكن، وبشحن فكري متدرج له من جانب هنري كيسنجر. والمستحيل الذي نعنيه هو جمْع رئيس مصر ورئيس وزراء إسرائيل على كلمة سواء كانت اتفاقية «كامب ديفيد». هنا وجوب الملاحظة أن مصر منذ توقيع تلك المعاهدة وهي تلتزم السلام ولم يسجَّل عليها أي اختراق، في حين نلاحظ أن إسرائيل حكومة تلو أُخرى وبالذات الحكومة التي ترأسها آرييل شارون، وتلك التي يترأسها حالياً بنيامين نتنياهو… اعتمدتا افتراس خلْق الله وتدمير البنيان والتلذذ بتمويت الأطفال وكبار السن نتيجة الجوع وسوء التغذية، والعدوان على الناس بالمسيَّرات أو بالطائرات والصواريخ. وفي عهد الحكومة البنيامينية بلغ التوحش مداه. واللافت أنه لم يتوقف فيما كانت مبادرة الرئيس ترمب العشرينية قد تم نشْرها وبثها عبْر الفضائيات وقوبلت من جانب الحكومات العربية والإسلامية بالارتياح النسبي لها.

ويحضرنا في معرض الإشارة إلى ظاهرة التوحش تقرير صحافي من لندن للزميل علي الصالح نشرتْه «الشرق الأوسط» في عددها الصادر يوم الاثنين 3 فبراير (شباط) 2003، ويضيء بريشة الرسام الشهير ديف براون نشرتْه صحيفة «الإندبندنت» البريطانية في عددها الصادر 26 يناير (كانون الثاني) 2003، ويعكس مدى عدوانية شارون الشبيهة بعدوانية رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو. وكما كانت حالة الدمار والخراب حاضرة، فإنها كانت كذلك زمن شارون الذي جسَّده الرسام في شكل وحش بشري يمسك بكلتا يديه طفلاً ويلتهمه. ومع أن شارون كما الحالي نتنياهو لم يلتهما كل منهما أطفالاً غزاويين إلا أنهما جسَّدا بأفعالهما ما بدا جلياً في الرسم الكاريكاتوري المشار إليه الذي جعل «اللوبيات» الصهيونية تتحرك على نحو ما حدَث تجاه الكلام التوصيفي الذي أورده الرئيس الراحل جيمي كارتر، وهو أن «القضية الفلسطينية تشبه حملة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة…».

هنالك حقبة جديدة تبدو دول المنطقة العربية على موعد معها في حال أخذت مبادرة الرئيس ترمب طريقها إلى التنفيذ واتخذت «حماس» موقفاً يُذكر لها بالتقدير، وهو ألا تضع عراقيل في طريق التنفيذ انطلاقاً من أن المبادرة العشرينية لا تأخذ دور «حماس» في المشهد المأمول رسْم معالمه اقتصادياً وسياسياً للمنطقة. وهي إذا أربكت المبادرة بإصرار على برنامجها الذي أدته على مدى سنتين، فإن رصيدها الذي حققتْه سيبدأ في الذبول. ومِن هنا فإن فرصة تعريب موقفها وانخراطها في وحدة وطنية مع سائر الأطياف الفلسطينية، بحيث تلغي كما هذه الأطياف في شخصيتها الثورية، وتؤسس لشخصية تعويض فلسطين عما ذهب هباءً على مدى نصف قرن. وإنها مدعاة استغراب ألا تحدُث مبادرة وفاق فلسطينية تحت راية جمْع الشمل الذي يكفيه تشتتاً، ومن دون أي تريث، خصوصاً أن مجادلات نصف قرن ثوري أسهمت في أن الجانب الإسرائيلي بدأ يخطط لما هو أكثر إخضاعاً، سواء كان ذلك بالعدوان، أو بتحالفات استهدفت حالات من التشقق في الموقف العربي العام من الصراع العربي – الإسرائيلي.

بعد بوادر الحل المتمثلة بمبادرة الرئيس ترمب للموضوع الغزاوي الشائك والمتشابك، بات التفاؤل خيراً بمبادرة قليلة الكلمات، وتتعلق بصيغة الدولتين، كأن يُلحق الرئيس الأميركي المتطلع إلى الدور التاريخي مبادرة العشرين بخطوة نوعية على طرق حسْم صيغة الدولتين. فهو أعطى إسرائيل الكثير حتى أن عطاءاته كانت على حساب حقوق الآخرين، ومنها على سبيل المثال لا الحصر مبايعة إسرائيل القدس لها والجولان أرضاً تابعة لسائر الأراضي العربية المحتلة التي بات لا بد من حسْم الأمر بما يُسكت صوت الصواريخ، وتملأ السماوات العربية أجواء السلام.

معظم رؤساء الولايات المتحدة أوردوا بعبارات خجولة أهمية أن تكون هنالك دولة فلسطينية. وكان كارتر دون سائر الرؤساء مقداماً بتشبيه الحالة الفلسطينية بـ«حملة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة».

عسى ولعل الرئيس ترمب وقد كثرت الدول من القارات الخمس تؤيد قيام دولة فلسطينية، يهدي السلام العالمي المتعثر بارقة طمأنينة بمبادرة يحسم فيها ما تتمناه الحكومات العربية، وتتضمن موافقة الولايات المتحدة كما بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وآيرلندا والنرويج وعشرات الدول على قيام دولة فلسطينية تتيح لمسلمي العالم الصلاة في الأقصى، ولمسيحيي العالم تأدية القداس في كنيسة القيامة، وبترحيب من إسرائيل التي تكون طوت صفحة العدوان على مدى ثلاثة أرباع قرن.

وبذلك يبدأ السلام من أرض السلام… وكفى منطقة الشرق الأوسط ويلات العداوة، والشروع فيما يريده الله.

التعليقات معطلة.