الجزء الرابع:
من غزة والعراق تُرسم الخرائط وساحات النفوذ
لم تعد غزة مجرّد ساحة حربٍ بين إسرائيل وحماس، ولا العراق مجرّد بلدٍ يخرج من دوامة الفوضى السياسية. فالمشهدين معًا باتا يمثلان ميدانين متوازيين تُرسم فيهما خرائط النفوذ للشرق الأوسط الجديد، الذي تسعى واشنطن ولندن — ومعهما القوى العربية الصاعدة — إلى هندسته من جديد بعد سقوط المعادلة القديمة التي حكمت المنطقة منذ 1979.
الحرب في غزة لم تكن غاية بحد ذاتها، بل كانت الشرارة التي كشفت حدود المشروع الإيراني وأوهامه. فـ«محور المقاومة» الذي بنته طهران لعقود، تهاوى في اختبار الواقع: لا قدرة على الردّ، ولا انسجام بين أذرعه، ولا غطاء شعبي يبرّر استمرار دوره. ومع انكفاء إيران في سوريا، وتراجع حماس إلى هامش الفعل السياسي، تحوّل العراق إلى النقطة الأكثر حساسية في الحسابات الدولية، بوصفه مركز الثقل الجيوسياسي الذي يمكن عبره إعادة رسم توازن الشرق الأوسط.
العراق… مركز التوازن الجديد
العراق اليوم يقف عند مفترق تاريخي: فهو الدولة التي تمتلك مفاتيح التوازن بين الخليج وبلاد الشام وإيران وتركيا. هذا الموقع الجغرافي، إلى جانب ثروته النفطية ووزنه الديموغرافي، جعله في قلب اهتمام القوى الكبرى. تدرك واشنطن ولندن أن من يملك النفوذ في بغداد، يمتلك القدرة على ضبط الإيقاع الإقليمي بأكمله.
من هنا، جاء التحرك الأمريكي – البريطاني المشترك لإعادة صياغة دور العراق، لا بوصفه تابعًا، بل كـ“مركز توازن” يحدّ من نفوذ إيران ويعيد الربط بين المشرق العربي ومحيطه الخليجي. فالمعادلة الجديدة التي تُبنى اليوم في المنطقة تقوم على إعادة العراق إلى موقعه الطبيعي: دولة سيادية منفتحة على محيطها العربي، تشكّل جسر المصالح بين الشرق والغرب، لا بوابةً للمحاور المتصارعة.
تراجع المشروع الإيراني
إيران تدرك أن خسارتها لسوريا وغزة لم تكن فقط جغرافية، بل وجودية. فالعراق هو آخر خطوطها الخارجية المتبقية، وحين تبدأ ملامح توازنٍ جديد في بغداد، ينهار مشروع “الهلال الشيعي” الذي بُني على اختراق الحدود واستغلال الأزمات. الضربات الإسرائيلية في سوريا، والتفاهمات الأمنية الأمريكية – البريطانية – الخليجية، جعلت من العراق ميدانًا لمواجهةٍ هادئة، لكن حاسمة: مواجهة بين مشروع دولةٍ وطنية مستقلة، ومشروع ولايةٍ مذهبية فقدت قدرتها على الإقناع.
النظام السياسي العراقي الموالي لإيران يعيش اليوم مأزقًا متعدّد الأبعاد: داخليًا، يواجه فقدان الثقة الشعبية، وخارجيًا يفتقد الدعم الدولي. أما الميليشيات، التي كانت يوماً أداة طهران في تثبيت نفوذها، فقد تحولت إلى عبء سياسي وأمني، بعد أن أصبحت مهددة بالعزلة والملاحقة ضمن التفاهمات الإقليمية الجديدة. لقد تغيّر المشهد: واشنطن ولندن لم تعودا تتعاملان مع العراق من زاوية “احتواء النفوذ الإيراني” فحسب، بل من منظور “استعادة المركز” — أي إعادة بناء العراق كمحورٍ جاذبٍ للاستقرار، ونقطة توازن تمنع أي قوة من الاستفراد بالمشهد.
التحول نحو مشروع الدولة
في ظل هذه المعادلة، بدأت تتشكل ملامح مشروعٍ وطني جديد داخل العراق: تيارات مدنية وشعبية تسعى لاستعادة الدولة من أيدي الميليشيات، وإعادة السياسة إلى إطارها الوطني. هذه الحركات تجد دعمًا ضمنيًا من العواصم الغربية والعربية التي ترى أن استقرار المنطقة يمر عبر بغداد، لا طهران. فالشرق الأوسط الجديد لن يُبنى على التحالفات الطائفية أو الخطابات الثورية، بل على الدولة القادرة على حفظ مصالحها ومصالح شركائها في آنٍ واحد.
من غزة إلى بغداد… إعادة توزيع الأدوار
في الوقت الذي تتجه فيه الأنظار إلى ما بعد حرب غزة، تبدو واشنطن ولندن ومعهما القوى العربية بصدد رسم خريطة نفوذٍ أكثر وضوحًا:
غزة ستكون بوابة التحول في القضية الفلسطينية نحو حلٍّ سياسي واقعي بعيد عن الشعارات الإيرانية.
وسوريا ستتحول إلى مساحة توازن روسي – عربي يقطع الامتداد الإيراني نهائيًا.
أما العراق، فسيكون نقطة الارتكاز التي يُعاد من خلالها بناء منظومة الشرق الأوسط الأمني والسياسي، وتحديد حدود الأدوار الإقليمية.
العراق… بوابة المستقبل
المعادلة التي تتشكل اليوم تُعيد العراق إلى موقعه التاريخي: مركز التوازن بين الشرق والغرب، والعامل الحاسم في استقرار المنطقة. فمن بغداد لا من طهران، ستُرسم خطوط النفوذ المقبلة. ومن قراراتها الداخلية، سيتحدد شكل النظام الإقليمي الجديد الذي تسعى القوى الكبرى لترسيخه ، نظام لا يُبنى على الشعارات الأيديولوجية، بل على المصالح، وعلى الدولة لا الميليشيا.
إن الشرق الأوسط الذي يولد اليوم، يولد من بغداد .وما هو مخطط في ذهن الفاعل الدولي للعراق ليس حدثًا عابرًا، بل إعادة تدويرٍ للتاريخ والجغرافيا والسيادة، حيث تستعيد الأمة العراقية قلبها المفقود بعد نصف قرنٍ من الفوضى.
(يتبع في الجزء الخامس: الشرق الأوسط بين الحروب المؤجلة والسلام المرهون بالقرار الدولي)

