الجزء السادس:
إسرائيل… من انتصار السلاح إلى أزمة الوجود
يبدو أن إسرائيل، التي تأسست على فلسفة القوة، تقف اليوم أمام مفارقة تاريخية غير مسبوقة: إنها الأقوى عسكريًا في المنطقة، لكنها الأضعف وجوديًا في ميزان الشرعية والطمأنينة. لقد انتصرت في كل الحروب تقريبًا، لكنها لم تربح سلامًا واحدًا يضمن بقاءها دون خوف. وبينما يتبدّل الشرق الأوسط من حولها، تُدرك إسرائيل أنها تعيش زمنًا لم يعد السلاح فيه ضمانة للبقاء، بل عبئًا ثقيلًا يُذكّرها بأنها دولة ما زالت تبحث عن معنى وجودها، لا عن حدود نفوذها.
من القوة إلى القلق
منذ تأسيسها، قامت إسرائيل على معادلة بسيطة: “الردع أولًا”. لكن هذه المعادلة، التي منحتها تفوقًا عسكريًا لعقود، أصبحت اليوم مثار شك داخلي وخارجي معًا. فالعدو تغيّر، والتهديدات تحوّلت من جيوشٍ نظامية إلى طيفٍ من الأخطار المتناثرة من الداخل والخارج، ومن الواقع والرمز معًا .وها هي تعيش أزمة هوية مركّبة:
أمنٌ بلا سلام،
انتصارٌ بلا استقرار،
وجودٌ بلا يقين.
كل ذلك في لحظة تاريخية تتراجع فيها الثقة الشعبية بالمؤسسة العسكرية، ويتعمق الانقسام الداخلي بين “إسرائيل القوية” و“إسرائيل الخائفة”.
مأزق الداخل… حين تتحول القوة إلى عبء
التهديد الأخطر على إسرائيل لم يعد من الخارج، بل من الداخل. فالمجتمع الإسرائيلي يعيش انقسامًا غير مسبوق بين تياراتٍ متناقضة: دينية وعلمانية، يمينية ويسارية، قومية ومتصهينة. هذا الانقسام لا يهدد وحدتها السياسية فحسب، بل مشروعها الوجودي ذاته، إذ بدأ “السؤال الأخلاقي” الذي ظل غائبًا لعقود، يطلّ من جديد: كيف يمكن لدولة أن تبقى قوية وهي محاطة بالخوف، وأن تدّعي الديمقراطية وهي تمارس الاحتلال، وأن تبحث عن سلامٍ وهي ترفض الاعتراف بحق الآخر في الحياة؟
إسرائيل التي انتصرت بالسلاح، بدأت تخسر في المعنى. والعقل الإسرائيلي، الذي كان يحسب الحرب بدقة، بات اليوم يفتقد البوصلة التي تحدد الهدف من هذه القوة: هل لحماية وطن؟ أم لتثبيت كيانٍ لا يشعر بالأمان إلا في ظل التوتر الدائم؟
بين الغرب والشرق… عزلة الاختيار
لطالما كانت إسرائيل حليفًا استراتيجيًا للغرب، لكنها اليوم تواجه واقعًا مختلفًا: التحولات العالمية، وتراجع الهيمنة الأمريكية الأحادية، وصعود التعددية الدولية، جعلت إسرائيل تشعر بأنها أقل مركزية في الحسابات الكبرى. أما في الشرق الأوسط الجديد، فالدول بدأت تبحث عن أمنها عبر التفاهم لا الصدام، وعن نفوذها عبر الاقتصاد لا السلاح. وفي هذا المشهد، تبدو إسرائيل رغم تفوقها العسكري دولة تعيش في زمنٍ لم يعد يشبهها.
التحالفات الإقليمية تُبنى على المصالح، لا على العداء المشترك. والغرب نفسه لم يعد قادرًا على خوض الحروب نيابةً عنها، ولا على تبرير أفعالها أمام الرأي العام العالمي الذي بدأ يرى الاحتلال عبئًا أخلاقيًا لا قضية سياسية.
إسرائيل بين وجودين
هناك اليوم إسرائيلان:
إسرائيل السلاح، التي ما زالت تحكم بالردع وتعيش على منطق القوة.
وإسرائيل الوعي، التي بدأت تدرك أن البقاء لا يصنعه السلاح، بل المعنى.
هذا التناقض هو ما يجعلها تعيش “أزمة الوجود” بكل أبعادها. فحين تفقد الدولة قدرتها على تعريف نفسها، تتحول من مشروعٍ وطني إلى مشروعٍ مؤقت، مهما بلغت قوتها.
الشرق الأوسط يعيد تعريفها
إسرائيل اليوم ليست في مواجهة العرب وحدهم، بل في مواجهة واقعٍ جديد: شرق أوسط يتغير من حولها، تُرسم حدوده بالاتفاقات لا بالحروب، وتُبنى تحالفاته على الاستقرار لا التهديد. لم تعد “القلعة المسلحة” مقنعة في زمنٍ تتساقط فيه جدران الخوف وتتقدم فيه مشاريع التنمية والشراكة. إنها تقف على مفترق طرق: إما أن تُراجع مشروعها الوجودي لتتأقلم مع شرق أوسطٍ جديد يقوم على المصالح المتبادلة، أو تظل أسيرة فلسفة القوة حتى تتآكل من داخلها.
من انتصار السلاح إلى أزمة الوجود، تمرّ إسرائيل بأعمق اختبار في تاريخها. قد تظل قوية عسكريًا، لكنها تواجه ضعفًا وجوديًا متزايدًا كلما ازداد وعي العالم والمنطقة بأن بقاءها لا يعني استقرار الشرق الأوسط، بل تأجيل سلامه.
فإسرائيل التي كانت تُعرّف نفسها كـ“دولة ضرورية”، باتت اليوم في نظر كثيرين “دولة مؤقتة” ما لم تُغيّر فلسفتها تجاه السلام والعدالة. إنها أمام لحظة الحقيقة: إما أن تنتمي إلى الشرق الأوسط الجديد كدولةٍ طبيعيةٍ تبحث عن شراكة، أو تبقى كيانًا يعيش على حافة الخوف، ينتصر في الحرب ويخسر في الوجود .
“يتبع غدا: العالم بعد الحرب… التوازن الجديد وصناعة القرار الدولي”

