الجزء السابع:
العالم بعد الحرب… التوازن الجديد وصناعة القرار الدولي
بعد أن هدأت أصوات المدافع مؤقتًا في الشرق الأوسط، برز سؤال العالم كله: هل نحن أمام نهاية الحروب أم أمام بداية نظامٍ دولي جديد يُدار بميزانٍ مختلف؟ ما يجري في المنطقة اليوم ليس مجرد إعادة تموضعٍ سياسي أو عسكري، بل تحولٌ في فلسفة القوة ذاتها. فالحروب التي كانت تصنع الحدود، باتت تصنع التفاهمات، والخرائط التي رُسمت بالنار بدأت تُعاد صياغتها بالحوار والمصالح.
النظام الدولي الجديد… من إدارة الصراع إلى هندسة الاستقرار
العالم ما بعد الحروب الكبرى لم يعد يسعى لإلغاء الصراعات، بل لإدارتها وضبطها ضمن حدودٍ لا تهدد التوازن العالمي . فالقوة لم تعد معيار السيطرة، بل وسيلة لتنظيم المصالح . وفي هذا السياق، تُعاد هندسة الشرق الأوسط كمنطقة نفوذٍ مشتركة، لا كساحة صراعٍ مفتوحة.
الولايات المتحدة وبريطانيا ما زالتا تمسكان بزمام المبادرة، لكن ليس وحدهما. فروسيا والصين وأوروبا ودول الخليج باتت أطرافًا فاعلة في رسم معادلة جديدة تُبنى على “تقاطع المصالح” لا “تناقضها”. أما القرار الدولي، فقد أصبح أداة لتثبيت هذه المعادلة، عبر فرض خطوطٍ حمراء تمنع الانفجار الشامل وتُبقي على التوازن المطلوب.
فلسطين… عقدة الاستقرار ومفتاحه
في قلب هذا النظام الجديد تقف القضية الفلسطينية من جديد، لا كرمزٍ للصراع، بل كشرطٍ للاستقرار. فحلّ الدولتين لم يعد خيارًا دبلوماسيًا يُتداول في المؤتمرات، بل أصبح الركيزة الحتمية لأي سلامٍ دائم في الشرق الأوسط. إن تجاهل هذا الحل يعني ببساطة تأجيل الانفجار القادم، لأن غياب العدالة هو البذرة التي تنبت منها كل أشكال التطرف وعدم الاستقرار.
الاعتراف المتبادل، وضمان الدولة الفلسطينية القادرة على الحياة، وتأمين إسرائيل داخل حدودٍ آمنة ومعترف بها — هذه ليست شعارات مثالية، بل أساس التوازن الجديد الذي تسعى القوى الكبرى إلى ترسيخه. فالسلام الحقيقي لا يتحقق بالقوة، بل بالعدالة؛ ولا يُحفظ بالسلاح، بل بالثقة المتبادلة.
الشرق الأوسط في معادلة العالم
ما يجري في المنطقة اليوم لا ينفصل عن تحولات أوسع:
في أوروبا، الحرب في أوكرانيا أعادت للعالم مفهوم “الحدود الآمنة” كشرطٍ للسلام.
في آسيا، الصراع الأمريكي – الصيني يرسم قواعد المنافسة على الاقتصاد لا الجغرافيا.
وفي الشرق الأوسط، تتحول المنطقة إلى عقدة وصلٍ في معادلة الاستقرار العالمي، حيث الطاقة والممرات والموقع الجيوسياسي تمنحها وزنًا استراتيجيًا لا يمكن تجاوزه.
من هنا، فإن استقرار الشرق الأوسط لم يعد مصلحة إقليمية فقط، بل ضرورة عالمية. وأي خلل في توازن هذه المنطقة سيهزّ النظام الدولي بأكمله، من أسعار الطاقة إلى الأمن الغذائي إلى مسارات التجارة العالمية.
نحو سلامٍ دائم… لا هدنة مؤقتة
السلام الذي يُبنى اليوم ليس اتفاقًا سياسيًا بين أطراف، بل مشروعًا دوليًا لإعادة تعريف مفهوم السيادة والأمن. إنه سلامٌ مشروط بالمسؤولية، ومدعوم بالتنمية، ومحمول على رؤية تتجاوز الشعارات. وإذا كان الشرق الأوسط قد عرف مراحل “السلام الموقّت” سابقًا، فإن ما يُرسم اليوم هو مشروع السلام الدائم الذي يقوم على توازن المصالح والاعتراف المتبادل.
ولن يتحقق هذا السلام إلا بإنهاء المعضلة الفلسطينية عبر حل الدولتين، باعتباره العمود الفقري الذي تستند إليه كل تسويات المنطقة. فمن دونه ستبقى إسرائيل في أزمة وجود، والعرب في أزمة عدالة، والعالم في دوامة إدارة الأزمات بدل إنهائها .
العالم بعد الحرب لا يبحث عن المنتصر، بل عن المستقر. والشرق الأوسط الجديد لن يُقاس بعدد الجيوش، بل بمدى القدرة على بناء الثقة وإدارة المصالح. إنه عالم يتجه نحو الواقعية العقلانية، حيث القرار الدولي يصبح أداة لتحقيق السلام لا لتجميده.
وهكذا، يدخل الشرق الأوسط مرحلةً جديدة من تاريخه، مرحلة تُكتب فيها معادلات الأمن والعدالة والمصلحة على صفحة واحدة، وتُعاد فيها صياغة العلاقة بين الشعوب لا بين الأنظمة فقط.
(يتبع غدا: تصحيح المعادلة القديمة… ولماذا تأخرت الحرب على إيران؟)

