ـ محمد طارق
قالت صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية، إن الضفة الغربية تبدو ظاهرياً هادئة مقارنة بجبهات أخرى، لكن تحت هذا الهدوء السطحي تتشكل أزمة سريعة التحول وشديدة التقلب وقابلة للانفجار، قد تقود في نهاية المطاف إلى واقع الدولة الواحدة.
وذكرت “جيروزاليم بوست” في تحليل تحت عنوان “هدوء هش يخفي أزمة متفاقمة في الضفة الغربية”، أنه منذ هجوم حركة حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ظلت الضفة الغربية إحدى الجبهات الأكثر هدوءاً نسبياً ضمن الصراع المتعدد الجبهات الذي تخوضه إسرائيل، وبالمقارنة مع القتال العنيف في غزة، والمعارك والإنجازات الاستراتيجية في لبنان، والحملة المتواصلة ضد إيران، والاحتكاك المستمر مع الحوثيين، تبدو الضفة،على الأقل ظاهرياً، بلا تغيير، غير أن هذا الهدوء الهش يخفي واقعاً يتبدل بسرعة.
توازن دقيق غير مستدام
تشير الصحيفة إلى أنه رغم ارتفاع مستوى الاحتكاك، لم تنزلق الضفة إلى انتفاضة ثالثة، ولم تنهَر السلطة الفلسطينية الهشة، ولا يعود ذلك إلى استقرار ذاتي، بل إلى توازن دقيق وغير قابل للاستمرار، فالوقائع الاقتصادية والسياسية والأمنية تتدهور بسرعة.
أزمة اقتصادية عميقة
تلفت “جيروزاليم بوست” إلى أزمة اقتصادية متفاقمة ناجمة عن قرار لمجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي بالحد بشدة من دخول العمال الفلسطينيين إلى داخل إسرائيل منذ هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول)، فبعد أن كان عددهم يقترب من 200 ألف يومياً، لم يعد يحصل على التصاريح سوى عشرات الآلاف، وغالبيتهم يعملون داخل المستوطنات في الضفة بدلاً من السماح لهم بالعمل داخل إسرائيل نفسها.
وبالتوازي، أدى تجميد إسرائيل لمدة ستة أشهر لتحويل أموال المقاصة التي تجبيها لصالح السلطة الفلسطينية، والتي تشكل نحو 65% من موازنتها التشغيلية، إلى رفع البطالة في الضفة من 15% إلى ما يقارب 40%، وتنعكس التداعيات الاقتصادية بحدة في المدن والمخيمات، ما يفاقم التوترات ويهز أسس المجتمع الفلسطيني.
استقطاب سياسي وتصعيد ميداني
وتزامنت تلك الأحداث مع دعوة وزراء من اليمين الإسرائيلي المتشدد، أبرزهم وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، بشكل علني إلى إسقاط السلطة الفلسطينية، معتبرين إياها عدواً لا يقل خطراً عن حماس، ولفتت الصحيفة إلى أن رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو ردد هذا التوجه، قائلاً إن الفارق بين السلطة وحماس يكمن فقط في القدرات.
وبالتزامن، تصاعد العنف بين المستوطنين والفلسطينيين بشكل حاد، مع وقوع حالات قتل ارتكبها بعض المستوطنين المتطرفين بحق مدنيين فلسطينيين خلال مواجهات مباشرة.
وتوضح الصحيفة أن سموتريتش، الذي يتولى كذلك دوراً داخل وزارة الدفاع، يمتلك نفوذاً واسعاً على الإدارة المدنية التي تدير سياسة الاستيطان في الضفة، وقد طرح رؤية واضحة تشمل ضم 82% من الضفة، وتوسيع المستوطنات بما يجعل التواصل الجغرافي الفلسطيني مستحيلاً، وإقامة دولة يهودية واحدة تمتد من النهر إلى البحر، مع الإبقاء، بحسب وصفه، على “ديمقراطية” تتضمن شكلين مختلفين من المواطنة.
الاعتراف بالدولة الفلسطينية والتهديدات الإسرائيلية
وبحسب “جيروزاليم بوست”، بلغت هذه التوترات ذروتها في الأسابيع الأخيرة على وقع موجة من الاعترافات الدولية بدولة فلسطينية، وكان الرد الإسرائيلي الأول التهديد بضم الضفة، لكن ذلك يبدو أنه تعطل مؤقتاً بفعل معارضة أمريكية، وتفيد الصحيفة بأن الرفض جاء مباشرة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يخشى أن تقوض مثل هذه الخطوات الاتفاقيات الإبراهيمية، أحد إنجازات ولايته الأولى.
وتذكر “جيروزاليم بوست” أن أطرافاً خارجية تعمل على تأجيج الوضع في الضفة، فحماس، عبر قيادتها في الخارج، تسعى باستمرار إلى التحريض والعنف، بينما تواصل إيران، وحتى حزب الله، تزويد خلايا مسلحة بالسلاح والتمويل، خصوصاً في مناطق مثل جنين وطولكرم حيث يزداد تراجع نفوذ السلطة.
أسباب الهدوء النسبي
ورغم ذلك، لم تنفجر الضفة بالكامل، وتقول الصحيفة إن سبب هذه السكينة الهشة ثلاثة عوامل، جمهور فلسطيني يرزح تحت ضغوط اقتصادية ويَحجِم عن تكرار سيناريو غزة؛ مكافحة العمليات المسلحة التي نجحت إلى حد كبير في قطع مسارات العمليات؛ واستمرار تنسيق السلطة أمنياً مع إسرائيل رغم ضعفها وقلة مواردها، بحسب الصحيفة.
وتحذر “جيروزاليم بوست” من أن هذه العوامل لا تصلح قاعدة استقرار طويلة الأمد، فإذا استمر الضغط الاقتصادي، فقد يجر مزيداً من الفلسطينيين إلى دوامة العنف ويضعف السلطة، كما أن عنف المستوطنين وخطاب التحريض داخل الحكومة الإسرائيلية قد يشعلان مواجهات أوسع ويزيدان الإدانة الدولية.
ثورة أيديولوجية هادئة
وتشير الصحيفة إلى “ثورة أيديولوجية هادئة” تعيد تشكيل المشهد الاستراتيجي، إذ يتلاشى تدريجياً مفهوم حل الدولتين، ليس فقط بسبب اختلال الساحة الفلسطينية أو اعتبارات الأمن الإسرائيلي، بل لأن جزءاً مهماً من قيادة الصهيونية الدينية في إسرائيل يدفع عمداً نحو واقع الدولة الواحدة.
وتظهر مؤشرات ذلك في توسع الوجود السكاني اليهودي خلف الخط الأخضر، ودمج بنى الضفة التحتية في المنظومات الإسرائيلية، والتشابك الاقتصادي العميق بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وكلها تدفع نحو ضم فعلي حتى في غياب إعلانات رسمية.
الانتخابات المقبلة
الخلاصة، أن الصحيفة ترى أن هذا المنعطف يستلزم اهتماماً فورياً ونقاشاً جدياً حول مستقبل العلاقة بين الشعبين، قبل الانزلاق إلى “واقع دموي”، وتؤكد أن الجمهور في إسرائيل يستحق وضوحاً، وأن هذه المسألة يجب أن تتصدر الانتخابات العامة المقبلة، حيث يتعين على القادة توضيح مواقفهم ورؤاهم، دولة أم دولتان؟ ديمقراطية أم قومية إثنية؟ تعايش أم إكراه؟، فمستقبل الضفة لم يعد قضية بعيدة، بل هو القضية المركزية التي ترسم مسار الدولة.

