الجزء الحادي عشر:
بريطانيا والعودة الحتمية إلى العراق لقيادة الشرق الأوسط
من يراقب حركة الأحداث في الشرق الأوسط، سيلاحظ أن بريطانيا — رغم صمتها النسبي تتحرك بخطى ثابتة لاستعادة موطئ نفوذها التاريخي في قلب المنطقة: العراق. فالتاريخ الذي انقطع شكليًا بعد عام 1958، لم ينقطع فعليًا من دوائر القرار البريطانية، التي ظلت تعتبر العراق مركز الثقل الطبيعي لأي مشروع توازن في الشرق الأوسط.
اليوم، وبعد أكثر من عقدين على الغزو الأمريكي للعراق، تتكشف ملامح عودة بريطانية مختلفة، ليست عسكرية هذه المرة، بل سياسية واقتصادية وثقافية، تُعيد تموضع لندن كلاعب محوري في هندسة النظام الإقليمي الجديد.
الولايات المتحدة تتراجع… وبريطانيا تتهيأ
منذ عهد الرئيس أوباما، تبنّت واشنطن سياسة الانسحاب التدريجي من الشرق الأوسط، مكتفية بإدارة “التوازنات” عبر إيران وتركيا وإسرائيل. لكن هذا النموذج فشل في تحقيق الاستقرار، وفتح الباب لتضخم النفوذ الإيراني وانهيار المنظومات الوطنية في العراق وسوريا ولبنان واليمن. هذا الفشل الأمريكي دفع لندن لإعادة تقييم المشهد، مدركة أن الفراغ الاستراتيجي في العراق يفتح الباب أمام مشروع بريطاني أوسع، يهدف لإعادة بناء “المركز العربي” المفقود، وتثبيت دور العراق كجسر بين الشرق والغرب.
العراق… البوابة التي لا بديل عنها
ليس صدفة أن تزداد التحركات الدبلوماسية البريطانية في بغداد في السنوات الأخيرة، ولا أن يظهر السفير البريطاني بتصريحات دقيقة التوقيت حول “ضرورة الإصلاح والعدالة وسيادة القانون”. فبريطانيا تدرك أن من يملك العراق المستقر والمستقل يملك مفتاح المنطقة بأكملها — من الخليج إلى بلاد الشام. العراق بالنسبة للندن ليس مجرد بلد نفطي، بل عقدة الربط الجيوسياسي التي يمكن عبرها إعادة تشكيل التوازن بين الخليج وإيران وتركيا وإسرائيل، بما يخدم استقرار المنطقة ويمنع تمدد القوى المنافسة، خصوصًا روسيا والصين.
مشروع العودة الناعمة
العودة البريطانية ليست استعمارية بالمفهوم القديم، بل استراتيجية ناعمة تعتمد على:
النفوذ الثقافي والتعليمي عبر الجامعات والمنح والبرامج التدريبية.
التعاون الأمني والاستخباراتي لمكافحة الفساد والإرهاب.
إعادة دمج النخب العراقية ضمن مشروع وطني حديث مرتبط بالمؤسسات الدولية.
تشجيع الاستثمارات البريطانية والأوروبية في قطاعات الطاقة والبنية التحتية، لإزاحة الهيمنة الإيرانية الاقتصادية.
هذه الأدوات تمهّد لمرحلة انتقالية جديدة في العراق، يكون فيها القرار الوطني متحرراً من وصاية “العمامة السياسية”، ومتجهاً نحو صيغة مدنية مدعومة دولياً.
قيادة الشرق الأوسط عبر بغداد
التاريخ يعيد نفسه، ولكن بوعي جديد. فكما كانت بغداد في ثلاثينات القرن الماضي منارة الإدارة البريطانية في المنطقة، قد تعود اليوم مركزًا لإطلاق نظام شرق أوسطي جديد، يقوم على الاستقرار والتنمية بدل الفوضى والصراعات. بريطانيا لا تسعى إلى مواجهة أمريكا، بل إلى تصحيح معادلتها المختلّة منذ 2003، واستعادة دور العراق كقلب العالم العربي بدل أن يكون ساحة نفوذ إيرانية.
الشرق الأوسط يقف اليوم على أعتاب تحوّل استراتيجي كبير. ومع تراجع الدور الأمريكي وتآكل النفوذ الإيراني، تبدو العودة البريطانية إلى العراق حتمية، ليس nostalgia للإمبراطورية القديمة، بل ضرورة لولادة نظام إقليمي جديد أكثر توازناً وعقلانية. فمن بغداد تبدأ التحولات… وفيها تُرسم خرائط الشرق الأوسط القادم.
يتبع غدا: “العراق بين الانتفاضة الشعبية والمشروع الدولي للتغيير”

