«نوبل للاقتصاد» تحمل دروساً تدعونا إلى تأمل واقعنا الثقافي
نظرةٌ متأنيةٌ خلف عناوين خبر ذهاب «جائزة نوبل» في العلوم الاقتصادية إلى الثلاثي جويل موكير، وفيليب أغيون، وبيتر هويت، تقديراً لأعمالهم الرائدة في شرح كيف يقود الابتكار النمو الاقتصادي المستدام، يكشف عن قصة أعمق وأكثر إلهاماً؛ قصة لا تدور حول الأرقام والنماذج الرياضية فحسب، بل حول الروح البشرية وقدرة الثقافة على تشكيل مصير الأمم.
احتفت «نوبل» هذا العام بفكرة أن الثروة الحقيقية لا تنبع من الموارد الطبيعية أو رأس المال المكدس، إنما تتجذر في العقول والمعتقدات والبيئة الفكرية التي تحتضن التغيير وتعلي من شأن المعرفة.
المتوّجون أجابوا بمجموع أعمالهم على سؤال طالما حيّر المؤرخين وعلماء الاقتصاد: لماذا على مدار آلاف السنين من التاريخ البشري، ورغم وجود ابتكارات عظيمة في حضارات مختلفة كالصين والعالم الإسلامي، ظل النمو الاقتصادي فترات مؤقتة ومحدودة، ولم ينطلق بشكل مستدام إلا مع الثورة الصناعية في أوروبا القرن الثامن عشر؟
هنا يأتي دور جويل موكير، المؤرخ الاقتصادي الذي نال نصف الجائزة، ليقدم إجابة ثورية وبسيطة في آن واحد: السبب لم يكن الفحم أو المستعمرات، بل كان «ثقافة النمو». وهو يرى أن ما حدث في أوروبا بين القرنين السادس عشر والثامن عشر ما كان مجرد تراكم للاختراعات، بقدر ما كان تحولاً ثقافياً عميقاً في نظرة النخبة الأوروبيّة المثقفة إلى العالم وموقعها منه. فلأول مرة، بدأ المفكرون والعلماء ينظرون إلى الطبيعة لا كشيء يجب تأمله وفهمه، بل شيء يمكن تسخيره لتحسين حياة البشر.
لقد قامت «ثقافة النمو» هذه على ثلاثة أركان أساسية حددها موكير؛ أولها تطور مشترك بين العلم والتكنولوجيا إذ لم تعد الاختراعات وليدة الصدفة أو التجربة والخطأ، بل أصبحت مبنية على فهم علمي لسبب نجاحها. فالناس لم يكتفوا بصناعة آلة تعمل، بل أرادوا أن يعرفوا لماذا تعمل دون الخضوع للتفسيرات الميتافيزيقية، مما سمح لهم بتطويرها والبناء عليها بشكل متسارع؛ وثانيها وجود طبقة عريضة من الحرفيين المهرة القادرين على تحويل الأفكار النظرية إلى آلات وأدوات دقيقة؛ وثالثها، وهو الركن الأخطر والأهم، مجتمع منفتح على التغيير. لقد تقبلت المجتمعات الأوروبية فكرة أن الابتكارات الجديدة قد تكون «مدمرة» للأنظمة القديمة، والموروثات الآيديولوجية، وأن هذا التغيير، رغم قلقه وأوجاعه، ضروري للتقدم.
ولعل ما ساعد على انتشار هذه الثقافة هو التفتت السياسي لأوروبا. على عكس الإمبراطورية الصينية الموحدة حيث يمكن لقرار واحد من الإمبراطور أن يوقف تياراً فكرياً بأكمله، كانت أوروبا عبارة عن «سوق للأفكار» تتنافس فيه الدول والممالك. فإذا رفض ملك فكرة ما، كان بإمكان العالم أو المخترع أن يحملها إلى بلاط آخر يرحب بها. هذا التنافس خلق بيئة خصبة للابتكار لم تكن موجودة في أي مكان آخر.
إذا كان موكير قد شرح «التربة الثقافية» اللازمة للنمو، فإن فيليب أغيون وبيتر هويت، اللذين تقاسما النصف الآخر من الجائزة، قدما لنا شرحاً لكيفية عمل «المحرك» الذي ينمو في هذه التربة. لقد طورا نظرية النمو الاقتصادي القائمة على فكرة «التدمير الخلاق » (Creative Destruction)، وهو مصطلح صاغه الاقتصادي جوزيف شومبيتر.
الفكرة بسيطة وقوية: النمو الاقتصادي المستدام ليس عملية هادئة وسلسة، بل هي عملية ديناميكية وعاصفة. كل ابتكار جديد وناجح (مثل الهاتف الذكي) يحمل في طياته بذور تدمير المنتج أو الصناعة التي سبقته (مثل الهواتف التقليدية وكاميرات التصوير وأجهزة الملاحة). هذه العملية، ورغم أنها قد تسبب فقدان وظائف في القطاعات القديمة، هي التي تدفع المجتمع بأكمله إلى الأمام، وتخلق صناعات جديدة، وترفع من مستوى المعيشة على المدى الطويل.

عمل أغيون وهويت يربط بشكل مباشر بين ثقافة موكير والواقع الاقتصادي. فلكي تعمل آلية «التدمير الخلاق» هذه بفاعلية، يحتاج المجتمع إلى أن يكون منفتحاً ومتقبلاً لهذا «التدمير» المؤقت. إذا كانت الثقافة السائدة تقاوم التغيير بشدة، وتحمي النظم القديمة غير الفعالة، وتخشى من كل جديد، فإنها في الواقع تخنق محرك النمو وتحكم على نفسها بالركود.
تأتي «نوبل» هذا العام في وقت حاسم يواجه فيه العالم «سحباً داكنة»، على حد تعبير أغيون. فنحن نشهد صعود سياسات الحمائية التجارية التي تقيد حركة الأفكار والسلع، ونرى احتكارات تقنية عملاقة قد تخنق المبتكرين الجدد، ونواجه تحديات مثل الذكاء الاصطناعي وتغير المناخ التي تتطلب ابتكاراً غير مسبوق.
الرسالة التي يبعث بها الفائزون واضحة: إن الطريق إلى المستقبل المزدهر لا يمر عبر الانغلاق والخوف، بل عبر الانفتاح والمنافسة وحرية الفكر. إنهم يقولون إن الاستثمار في التعليم العام والبحث العلمي معاً ليس رفاهية، بل هو شرط أساسي لبقاء الأمم في صدارة السباق الحضاري.
بالنسبة لنا في العالم العربي، تحمل هذه الجائزة دروساً لا شك بليغة. إنها تدعونا إلى وقفة تأمل مع ثقافتنا وتشير إلى المسارات للخروج من حال التكلس: كيف نشجع على النقد البناء وطرح الأسئلة الجريئة؟ وكيف نكافئ المبادرة والابتكار حتى لو زعزعا الأنظمة القائمة؟ وهل نرى في التكنولوجيا الجديدة فرصة أم تهديداً؟ وهل ننشئ شبكات أمان اجتماعية تحمي المتضررين من التغيير، مما يجعل المجتمع أكثر تقبلاً لعملية «التدمير الخلاق» الضرورية للتقدم؟
إن الازدهار المستدام، وفق بحوث الفائزين بـ«نوبل للاقتصاد» في نسخة 2025، ليس حصيلة نمذجات ومعادلات اقتصادية، بل هو نتاج ثقافة مجتمعية تؤمن بالتقدم، وتحتفي بالعقل، وتشجع الفضول، ولا تخشى من هدم القديم لبناء ما هو أفضل. إنها دعوة لندرك أن أثمن ما تملكه أي أمة هو عقول أبنائها، وثقافتها المنفتحة على التغيير والمستقبل.

