عادل بكوان
ترجمة : عدوية الهلالي
منذ صدمة 7 تشرين الأول 2023، يشهد الشرق الأوسط إعادة ترتيب متسارعة لتوازناته الإقليمية. وبصفتها طرفًا محوريًا ذا طموحات صريحة، تقف تركيا في قلب هذه التحولات، مضاعفةً بذلك عمليات إعادة تموضعها الاستراتيجي في محيطها المباشر.
فبعد أن تأثرت السياسة الخارجية التركية طويلًا بأيديولوجية عقائدية ومواجهة مفتوحة مع أنظمة عربية متعددة، يبدو الآن أنها تسعى إلى شكل من أشكال التطبيع البراغماتي، أو حتى التقارب، مع هذه الأنظمة/القوى الإقليمية ذاتها. في الوقت نفسه، لا تزال إيران منافسها الهيكلي الاستراتيجي، المتجذر بعمق في انعدام ثقة طويل الأمد نابع من إرث إمبريالي وانقسامات طائفية وتنافس على النفوذ، لا سيما في العراق وسوريا وفلسطين. ولطالما كانت القضية الكردية مصدرًا للصراع الداخلي، لكنها قد تتحول الآن إلى عامل استقرار، شريطة نجاح عملية السلام الجارية بين تركيا وحزب العمال الكردستاني. وأخيرًا، تُبرز القضية الإسرائيلية التوترات المستمرة: إذ تُدين أنقرة أفعال إسرائيل في غزة، لكنها لا تزال تحت ضغط من طرف ثالث، واشنطن، التي تسعى إلى تقليل الاحتكاكات بين حليفيها الاستراتيجيين. ومن هنا، يُطرح سؤال: كيف تُعيد تركيا تعريف علاقاتها مع القوى الإقليمية منذ عام ٢٠٢٣، مُتنقلةً بين بناء التحالفات والتنافس الاستراتيجي والسعي إلى التطبيع؟
على مدى أكثر من عقد، اتسمت العلاقات بين تركيا والعالم العربي بتغيرات عميقة. واليوم، يُمكننا أن نشهد إعادة تشكيل للتوازنات الإقليمية، تتسم بتقارب متزايد بين أنقرة وعواصم عربية متعددة. رغم عدم تشكّل تحالف رسمي حتى الآن،إذ تُحدّد الديناميكيات الحالية معالم محور تركي-عربي يتمحور حول الأمن والاستقرار والتنمية، على حساب التطلعات الديمقراطية.وتُجسّد الحالة السورية هذا التغيير. فبصفتها معارضًا شرسًا لنظام بشار الأسد، تبنّت تركيا، منذ عام ٢٠١١، سياسة قطيعة تامة مع دمشق. إلا أن صعود أحمد الشرع إلى السلطة غيّر المعادلة، وأتاح لتركيا فرصة تجديد مشاركتها على جبهات متعددة: عسكريًا، من خلال إنشاء قواعد عسكرية في شمال سوريا؛ واقتصاديًا، من خلال المشاركة الفاعلة في إعادة إعمار البلاد؛ وأمنيًا، من خلال تنسيق القضايا العابرة للحدود ومكافحة الإرهاب؛ وحتى أيديولوجيًا، من خلال الترويج لنموذج حكم إسلامي-محافظ يجمع بين السلطة السياسية والمرجعيات الدينية. ويُبرز هذا التغيير الاستراتيجي طموح تركيا في التأثير بشكل ملموس على مستقبل سوريا.
وفي مصر، يُمثّل هذا التحوّل انعكاسًا لافتًا للنظر بنفس القدر. فخلال الفترة القصيرة التي قضاها الإخوان المسلمون في السلطة بقيادة محمد مرسي، قدمت أنقرة لهم دعمها الثابت. ومع تولي عبد الفتاح السيسي السلطة وقمعه للحركة الإسلامية، انتهى كل هذا التعاون. ومع ذلك، تبدو تركيا اليوم مستعدة لطي هذه الصفحة. لقد أُهملت قضية الإخوان المسلمين، ويجري الآن تطبيع العلاقات مع نظام السيسي، مدفوعةً بحسابات اقتصادية وجيوسياسية أكثر من التقارب الأيديولوجي.
ويُقدم الخليج مثالاً آخر على هذا التصالح. فقد تحولت العلاقات المتوترة سابقًا بين تركيا والإمارات العربية المتحدة أو المملكة العربية السعودية خلال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، والتي كانت متجذرة في التنافس الإقليمي والرؤى المتضاربة للإسلام السياسي، نحو حوار متجدد. محمد بن سلمان ومحمد بن زايد، يُعيدان الاستثمار في تركيا التي تعاني من أزمة اقتصادية عميقة. هذا الدعم المالي أبعد ما يكون عن الإيثار: فهو يعكس رغبة في تعزيز العلاقات مع لاعب إقليمي رئيسي قادر على تشكيل النتائج في العديد من النقاط الساخنة مثل ليبيا وسوريا وشرق البحر الأبيض المتوسط. وعلى الصعيد الجيوسياسي، برز تقارب حول أولويات مشتركة: استقرار النظام، ومكافحة الإرهاب، والتنمية الاقتصادية، وإن لم يكن ذلك ديمقراطيًا. وقد عزز هذا الأساس المشترك التقاربات العملية، حتى بين الخصوم السابقين. ومن الأمثلة البارزة على ذلك الاجتماع بين دونالد ترامب وأحمد الشرع في 14 آيار 2025، في الرياض – والذي دبّره محمد بن سلمان وأردوغان بتكتم. ويشهد رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا لاحقًا على هذا النفوذ الجديد، الذي أتاحته دبلوماسية تركية عربية متصالحة.وهكذا، ورغم عدم إضفاء الطابع الرسمي عليها بعد، فإن جميع عناصر الشراكة الهيكلية جاهزة. فبين إعادة الاصطفاف الاستراتيجي، وتقارب المصالح، ورؤية مشتركة للنظام الإقليمي، تُشكّل تركيا والعالم العربي معًا فصلًا جديدًا لما بعد الربيع العربي.
لقد كانت تركيا أول دولة ذات أغلبية مسلمة، عام ١٩٤٩، تعترف بدولة إسرائيل.وبعد أن اعتُبرت لفترة طويلة شريكًا استراتيجيًا لتل أبيب، لا سيما في المجالين العسكري والأمني، تحولت أنقرة تدريجيًا، بدءًا من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، نحو موقف أكثر انتقادًا. مثّل صعود حزب العدالة والتنمية ورجب طيب أردوغان كبداية علاقة طموحة، تتأرجح بين البراغماتية والتوترات الأيديولوجية.
ومنذ الزلزال الجيوسياسي في ٧ تشرين الاول ٢٠٢٣، الذي اتسم بهجوم حماس على إسرائيل والهجوم الإسرائيلي اللاحق على غزة، برزت إسرائيل وتركيا، على نحو متناقض، كقوتين أقدر على الاستفادة من الفوضى المحيطة. فرسّخت تركيا موطئ قدمها في شمال سوريا ووسّعت نفوذها في العالم السني، بينما أضعفت إسرائيل حماس بشكل ملحوظ وأعادت تأكيد هيمنتها العسكرية في المنطقة. ومع ذلك، يبدو أنه لم ينشأ أي إطار تعاوني بين الدولتين.
وتتبلور هذه الخلافات بقضيتين رئيسيتين، الأولى هي الحرب في غزة. فمنذ 7 تشرين الأول، أدانت تركيا بشدة الاستراتيجية العسكرية لحكومة بنيامين نتنياهو، واصفةً إياها صراحةً بـ”الإبادة الجماعية” بحق الشعب الفلسطيني. أما أردوغان، الساعي إلى قيادة العالم الإسلامي، فيستخدم هذا الصراع كرافعة سياسية، بينما يستضيف أحيانًا مسؤولين من حماس على الأراضي التركية. وهذا الموقف يجعل التعاون الاستراتيجي مع إسرائيل بالغ الصعوبة، لا سيما وأن تل أبيب تعتبر اتهامات أنقرة تدخلاً غير مقبول في شؤون أمنها القومي.
أما القضية الثانية فتتعلق بسوريا ما بعد الأسد. فمع تراجع نفوذ إيران في المنطقة، تطمح تركيا إلى لعب دور محوري في إعادة إعمار سوريا وتحقيق الاستقرار فيها بقيادة أحمد الشرع. مع ذلك، تُعارض إسرائيل بشدة أي بديل تركي للنفوذ الإيراني في سوريا. من وجهة نظر تل أبيب، فإن استبدال طرف معادٍ (إيران) بطرف آخر حاسم (تركيا) لا يُحسّن من بيئتها الاستراتيجية.وعلى الرغم من التصعيد الخطابي والدبلوماسي المستمر، تجنبت الدولتان بحرص المواجهة العسكرية المباشرة. وهنا، يبرز طرف محوري: الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. فبعودته إلى البيت الأبيض في سياق إقليمي متفجر بشكل خاص، تولى ترامب دور الحكم الضمني بين أنقرة وتل أبيب. وبفضل قربه من كل من نتنياهو وأردوغان، يمتلك ترامب أدوات اقتصادية ودبلوماسية وأمنية قادرة على كبح جماح التصعيد. وهدفه واضح: منع حدوث قطيعة لا رجعة فيها بين حليفين إقليميين رئيسيين، والتي قد تُقوّض طموحاته في تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط.
وهكذا، لا تزال العلاقة التركية الإسرائيلية متضاربة ومقيدة. وتتميز هذه العلاقة بتنافس أيديولوجي دائم ومصالح استراتيجية متباينة، وتُدار حاليًا من خلال عملية توازن دقيقة تُدار من واشنطن. وفي ظل هذا المشهد المضطرب، يعمل ترامب كحارس للوضع الراهن الهش، محذرًا في الوقت الراهن من شبح المواجهة المباشرة بين أنقرة وتل أبيب.
وهكذا ،تكشف التفاعلات الإقليمية المكثفة منذ تشرين الأول 2023 عن إعادة هيكلة استراتيجية لتركيا، وتعديلات تكتيكية متزايدة في ظل مشهد شرق أوسطي سريع التغير.وهكذا، يبدو أن تركيا تتبنى دور القوة المحورية، وتسعى إلى ترسيخ مكانتها في آنٍ واحد كوسيط وموازن ومروج أيديولوجي لنموذج إسلامي محافظ مُصلح. إلا أن هذا الطموح لا يزال هشًا، لارتباطه بتوازنات غير مستقرة، وتنافسات مستمرة، وقوى خارجية لا يمكن التنبؤ بسلوكها. ولا يُرسّخ الشرق الأوسط ما بعد 7 تشرين الأول الهيمنة التركية، لكنه يُؤكد مركزية تركيا في نظام إقليمي يبحث عن هياكل جديدة.

