الجينات تكشف السر قبل أن يمرض الجسد

4

«النهج الجينومي» يكشف الداء قبل أن تظهر الأعراض

في تطور علمي لافت أظهرت دراسة حديثة أن استخدام ما يُعرف بـ«النهج الجينومي» أولاً يمكن أن يساعد في تشخيص الأمراض الوراثية النادرة في وقت مبكر وبشكل أدق من الطرق التقليدية التي تعتمد على ظهور الأعراض أولاً.

النهج الجينومي بدلاً من الأعراضفي الوقت الذي تصيب فيه الاضطرابات الوراثية النادرة نحو 24 مليون شخص في الولايات المتحدة وحدها، أي أكثر من 5 بالمائة من السكان، ظل تشخيص هذه الحالات تحدياً كبيراً للأطباء. وغالباً ما كان يتم عبر ما يُعرف بـ«النهج القائم على الأعراض»، أي عندما تظهر العلامات المرضية. ويتم إرسال المريض للفحص الجيني لتأكيد التشخيص. لكن حسب الخبراء، فإن هذا الأسلوب يفشل في رصد كثير من الحالات التي لا تظهر فيها أعراض واضحة أو التي تتطور ببطء شديد.

أما اليوم فالعلم يسير في الاتجاه المعاكس؛ أي تحليل الجينات أولاً ثم مراقبة العلامات السريرية لاحقاً. وهذه الفكرة الثورية كانت محور دراسة أجراها باحثو مركز «جيسينجر للأبحاث الطبية» في ولاية بنسلفانيا الأميركية ونُشرت في مجلة «The American Journal of Human Genetics» في 6 أكتوبر (تشرين الأول) 2025.

وشملت الدراسة 218 ألفاً و680 مشاركاً في إطار مشروع «مبادرة الصحة المجتمعية» (My Code) الصحي الذي يهدف إلى بناء قاعدة بيانات جينية ضخمة تساعد العلماء على فهم العلاقة بين الجينات والأمراض. ومن بين هؤلاء وجد الباحثون أن 2.5 بالمائة (نحو 1 من كل 40 شخصاً) يحملون طفرات وراثية قوية ترتبط بأمراض نادرة. لكن المدهش أن أغلبهم لم تظهر لديهم أي مؤشرات أو تشخيصات طبية لهذه الاضطرابات في سجلاتهم الصحية.

عندما تسبق الجينات المرضيشير هذا الاكتشاف إلى أن «النهج الجينومي أولاً» (genomic-first approach) يمكن أن يُحدث تحولاً جذرياً في الطب الحديث. فهو لا يساعد فقط على تشخيص المرض مبكراً بل يكشف أيضاً أن بعض الأشخاص قد يحملون جينات خطيرة دون أن يُصابوا فعلياً بالمرض مما يعيد التفكير في مفهوم «الخطر الجيني» ذاته.

يقول كايل ريترر كبير علماء البيانات في «جيسينجر» بنسلفانيا، الولايات المتحدة الأميركية، والمشرف على الدراسة، إن هذه النتائج تعني أن الاعتماد على الجينات أولاً قد يمكننا من التعرف إلى كثير من الحالات النادرة التي تمرّ دون ملاحظة وربما يثبت أن بعض الطفرات ليست مميتة كما كنا نعتقد.

ويضيف: «كلما فهمنا التفاعل بين الجينات والبيئة ونمط الحياة أصبحنا قادرين على التنبؤ بمسار المرض وربما منعه قبل أن يبدأ».

واعتمد فريق البحث على بناء قائمة تضم ألفين و701 من الأمراض الوراثية النادرة التي لا تُفحص عادة على نطاق واسع في الفحوص السكانية، ثم استخدموا تقنيات حوسبة متقدمة لتحليل التغيرات الجينية وربطها بالسجلات الطبية الإلكترونية للمشاركين عبر ما سموه «التطابق التشخيصي» (Diagnostic matching).

كما كشفت هذه المقارنة الدقيقة بين الجينات والتشخيصات الفعلية أن هناك فجوةً كبيرةً بين من يحملون طفرات مسببة للمرض ومن تم تشخيصهم فعلاً، ما يعني أن الكثيرين يعيشون دون معرفة أنهم يحملون جينات لاضطرابات نادرة وقد لا يُكتشف ذلك إلا بالصدفة أو عند ظهور أعراض متأخرة.

ولا يهدف هذا النهج الجديد فقط إلى تشخيص مبكر بل إلى تحسين الرعاية الطبية. فبمعرفة الجينات المسؤولة يمكن للأطباء تقديم إرشادات وقائية ومتابعة المرضى بانتظام وربما التدخل بالعلاج قبل تفاقم الحالة. كما يمكن استخدام هذه البيانات لتصميم علاجات دقيقة تناسب التركيبة الجينية لكل شخص.

نحو طب أكثر دقة وإنسانيةيرى الخبراء أن «النهج الجينومي أولاً» قد يُحدث ثورة مماثلة لتلك التي أحدثها اكتشاف اللقاحات في القرن الماضي. فهو يفتح الباب أمام طب وقائي قائم على الجينات يتيح للإنسان معرفة نقاط ضعفه الوراثية قبل أن تتحول إلى مرض. ويؤكد ريترر أن الهدف ليس فقط جمع المعلومات بل تحويلها إلى أدوات عملية من خلال هذه البيانات يمكننا فهم الصورة الكاملة للأمراض النادرة وتطوير خطط علاجية ووقائية مصممة خصيصاً لكل مريض.

وبينما كان الطب في الماضي يبدأ من الأعراض بحثاً عن السبب، فإن الطب الجديد يبدأ من الجينات بحثاً عن المستقبل. كما أن القدرة على تحليل الجينوم البشري بهذه الدقة تمنحنا نافذة نادرة لرؤية ما قد يحدث قبل أن يحدث وربما تمنح الأطباء الفرصة للتدخل في الوقت المناسب لإنقاذ الأرواح.

وبينما لا يزال هذا المجال في بدايته فإن نتائجه المبكرة تُعدّ وعداً حقيقياً بأن المرض قد لا يظل لغزاً يُكتشف بعد فوات الأوان بل معلومة دقيقة يمكن رصدها واحتواؤها قبل أن تبدأ رحلتها في الجسد.

التعليقات معطلة.