أعلنت “مجموعة السبع” والاتحاد الأوروبي سلسلة عقوبات على روسيا منذ هجومها على أوكرانيا، وركزت العقوبات على قطاع الطاقة بسبب دوره الكبير في دعم الاقتصاد الروسي وإيرادات الحكومة الروسية، وبسبب الاعتماد التاريخي لأوروبا على النفط والغاز الروسيين، وكانت أشهر هذه العقوبات وقف الاتحاد الأوروبي استيراد النفط “مباشرة” من روسيا في ديسمبر (كانون الأول) 2022، ووقف الاستيراد “المباشر” للمنتجات النفطية الروسية في فبراير (شباط) 2023، وبعدها تبنى الاتحاد الأوروبي سلسلة طويلة من العقوبات كان آخرها الحزمة الـ 19، وقد أعرب الرئيس دونالد ترامب الأسبوع الماضي عن انزعاجه من الرئيس فلاديمير بوتين لعدم تعاونه معه لإنهاء الحرب في أوكرانيا، وأعلن حزمة عقوبات تتضمن حظراً على أكبر شركتي نفط روسيتين، “روسنفت” و”لوك أويل”، اللتين تمثل صادراتهما نحو نصف صادرات النفط الروسية، والهدف كما أعلن وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسينت هو خفض إيرادات روسيا بصورة كبيرة، إذ يُجبر بوتين على إنهاء الحرب، وفي اليوم التالي أعلن الاتحاد الأوروبي حزمة العقوبات الـ 19 والتي شملت وقفاً “مستقبلياً” لواردات الغاز الروسي المسال، والسؤال الآن هل هذه عقوبات مؤثرة وخطرة كما صورها الإعلام الغربي خلال الأيام الأخيرة، أم أنها محاولات يائسة بعد فشل كل العقوبات الماضية؟
لاحظوا أني وضعت أعلاه كلمتي “مباشر” و”مستقبلياً” بين أقواس، فهاتان الشركتان ليست لهما أي أصول في الولايات المتحدة ولا تتعاملان مع البنوك الأمريكية، وجرى فصل أصولهما الأوروبية عن الشركة الأم، ومن ثم فإن قرار تجميد الأصول الذي صدر الأسبوع الماضي لا معنى له، ويمنع القرار أي شخص أو شركة أمريكية من التعامل معهما أو فروعهما، وهذا توقف منذ عهد بايدن عام 2022، وبذلك فليس له أثر أيضاً.
وبالنسبة إلى عقوبات الاتحاد الأوروبي فالحقيقة أن الحزمة الأخيرة وهي الـ 19 تجيب على السؤال، فتبني الحزمة الـ 19 دليل على أن الحزم الـ 18 السابقة لم تكن مؤثرة، والحقيقة المرّة بالنسبة إلى الأوروبيين هي أن الهند والصين تتجاهلان الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وسويسرا تماماً، لدرجة أن المصافي الهندية تستقبل يومياً ناقلات نفط محظورة من قبل الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وسويسرا، وكان الرئيس ترامب قد فرض رسوماً جمركية إضافية على الواردات من الهند بحجة أنها تستورد النفط الروسي، وبذلك فإن ثمن هذا النفط من وجهة نظره يدعم بوتين في حربه على أوكرانيا، والمشكلة هنا أن واردات الولايات المتحدة من روسيا في عهد ترامب ارتفعت عما كانت عليه العام الماضي في عهد بايدن، ولا تزال الولايات المتحدة تستورد اليورانيوم المخصب حتى يومنا هذا، إذ إن 15% من الكهرباء المنتجة من الطاقة النووية في الولايات المتحدة تولّد من يورانيوم مخصب مستورد من روسيا. دول الاتحاد الأوروبي لا تزال تستورد الغاز الطبيعي والغاز المسال الروسي مباشرة من روسيا ولم يتهمها ترامب بتمويل بوتين، والصين تستورد كميات ضخمة من النفط والغاز والفحم من روسيا ولم يتهمها ترامب بتمويل الحرب في أوكرانيا، وتركيا تستورد كميات كبيرة من النفط والمنتجات النفطية والغاز، كما شغّلت محطة نووية جديدة تعتمد على اليورانيوم المخصب من روسيا، ومع هذا لم يتهمها ترامب بتمويل حرب بوتين في أوكرانيا، وقائمة الدول الصديقة للولايات المتحدة التي تستورد النفط من روسيا تتجاوز 12 دولة، بما فيها دول الخليج والبرازيل وعدد من الدول الأفريقية، وكل هذا يدل على أن المشكلة ليست واردات النفط من روسيا، ولكن ترامب يستخدمها كأداة للضغط على الدول الأخرى، والملاحظ في كل العقوبات التي فرضتها “مجموعة السبع” والاتحاد الأوروبي أنها راعت ظروف الدول المشاركة بصورة تنفي عنها الصفة الأخلاقية لوقف الحرب ووقف قتل الروس للأوكرانيين، فلم يجر تطبيق العقوبات إلا عندما تأكدوا من هبوط أسعار النفط وأن النفط الروسي سيصلهم بطريقة أو بأخرى، إذ أقرّ اتفاق العقوبات على أنه يمكنها استيراد النفط الروسي إذا جرى تحويله إلى منتجات أخرى في بلد ثالث، ومن هنا بدأ دور الهند في تصدير المنتجات النفطية إلى أوروبا بعد تكرير النفط الروسي.
والغاز الروسي لم يُحظر حتى الآن، وقرار وقف استيراد الغاز المسال الروسي بحلول عام 2027 مشروط بقدرة الاتحاد الأوروبي على وقف أي قضايا قانونية ضد الشركات الأوروبية التي ستكسر عقود الغاز الطويلة المدة مع الشركة الروسية، وقد يفاجأ بعضهم أن غالبية الشركات الغربية التي كانت تعمل في روسيا، ووعدت بأنها ستفعل شيئاً ما بسبب الحرب في أوكرانيا، لا تزال تعمل في روسيا حتى يومنا هذا مما يؤكد ما ذكرته منذ ثلاثة أعوام في مساحة “أَنَسيات الطاقة” التابعة لـ “منصة الطاقة” بعنوان “العقوبات الغربية على روسيا والضحك على اللحى”، فالحقيقة أن الدول الغربية تنظر إلى مصالحها أولاً ثم إلى أخلاقياتها ثانياً، والرئيس بايدن لم يشدد العقوبات على إيران أو روسيا خشية ارتفاع أسعار النفط قبل الانتخابات، وترامب لم يتخذ القرار الأخير إلا لعلمه أنه لن يؤثر كثيراً في أسعار النفط.
ما يميز العقوبات الأخيرة التي فرضها ترامب عن غيرها هو أنها تهدد كل من يتعامل مع هاتين الشركتين الروسيتين بعقوبات أو حظر، وهذا أدى إلى بلبلة في السوق مما أطلق عنان بعض وسائل الإعلام التي تروج دائماً للعقوبات لبثّ ما تشاء من الأخبار والتقارير التي ليس لها أي أساس من الصحة، فقد عزت وسائل الإعلام ارتفاع أسعار النفط بنحو ستة دولارات الأسبوع الماضي إلى هذه العقوبات، ولكنها تجاهلت أن هذه العقوبات قد تطبق في المستقبل في حد أدناه شهر، وقد يجري تمديد عدم التطبيق لشهور مقبلة كما حصل في قرارات كثيرة لترامب، وفي الوقت نفسه تجاهلت وسائل الإعلام حقائق على أرض الواقع أثرت مباشرة في أسواق النفط وأسهمت في رفع الأسعار، ومنها انخفاض المخزون الأمريكي بصورة مفاجئة، والانخفاض الكبير في إنتاج وصادرات كازاخستان، وانخفاض صادرات “أوبك+”، كما تجاهلت استمرار نمو الطلب الأمريكي على النفط الذي بلغ أضعاف ما تتوقعه “وكالة الطاقة الدولية”.
ومنذ أعلنت إدارة ترامب الحظر على الشركتين الروسيتين نشرت وسائل الإعلام الغربية المشهورة تقارير كثيرة تشير إلى مدى كفاءة هذه العقوبات وتوقف الشركات الصينية والهندية عن شراء النفط الروسي من هاتين الشركتين، وموقف وسائل الإعلام هذه لم يتغير، فقد روجت للعقوبات وبالغت كثيراً في وصف آثارها وانكشف كذبها عشرات المرات، وما ذكرته خلال الأيام الماضية لا يختلف عن ذلك، إذ ليس هناك مصدر موثوق واحد يفيد بتوقف الشركات الصينية والهندية عن شراء النفط الروسي، ولكنني لا أستغرب إذا طلبت الحكومة الصينية من شركات النفط الرئيسة المملوكة من الحكومة التوقف التام عن شراء النفط مباشرة من الشركتين الروسيتين لأن هذا حدث في الماضي مرات عدة، فشركات النفط الصينية منتشرة حول العالم وتتعامل مع الأسواق الأوروبية والأمريكية كما تتعامل مع أنظمتها المالية، ويجري تداول أسهمها في البورصات الغربية، وحتى تحمي الصين شركاتها فقد طلبت منها الالتزام بالعقوبات الغربية، ولكن استيراد النفط من إيران وفنزويلا والآن روسيا حدث بصورة مستمرة بسبب قيام شركات صينية ليس لها أي تعامل مع الغرب على الإطلاق باستيراد هذا النفط، وبسبب الاستيراد غير المباشر من طريق نقل النفط من سفن إلى سفن أخرى في بلد ثالث مثلاً، فرسمياً لا تستورد الصين أي نفط من إيران ولكنها فعلياً تستورد نحو 1.3 مليون برميل يومياً من إيران، حيث تذهب السفن المحملة بالنفط الإيراني إلى المياه الماليزية أو الإندونيسية ويُنقل النفط إلى سفن أخرى، وبذلك تظهر البيانات الرسمية أن النفط المستورد من ماليزيا أو إندونيسيا.
وباختصار ستظهر وسائل الإعلام أن الصين والهند تخفضان وارداتهما من روسيا، ولكن في حقيقة الأمر لن يكون هناك أي خفض ولا يمكن على الإطلاق للصين والهند أن تتوقفا عن استيراد النفط الروسي لأنه لا بديل لنحو 4 ملايين برميل يومياً تستوردانها حالياً من روسيا، كما أن القول بأنه يمكن للهند أن تستورد من الولايات المتحدة بدلاً من روسيا يدل على جهل شديد، لأن المصافي الهندية مؤهلة للنفط المتوسط الحامض، بينما معظم صادرات النفط الأمريكي من الخفيف الحلو، ولا يمكن للرئيس ترامب أن يطبق هذه العقوبات فعلياً بينما تبقى أسعار النفط منخفضة، ويشير تاريخ ترامب إلى أنه إذا خُير بين خيارات عدة فإنه يختار دائماً أسعار النفط المنخفضة، ولن تتخلى الصين والهند عن النفط الروسي، وهناك كثير من الطرق للتلاعب على العقوبات.
وإذا كان باستطاعة دولة مثل إيران رفع صادراتها على رغم كل العقوبات المفروضة عليها فما بالك بروسيا وهي أقوى من إيران بعشرات المرات، فالحديث هنا عن ثلاث دول قوية هي روسيا والهند والصين، ومع ذلك قالت لنا وسائل الإعلام الغربية إنها خضعت لرغبات ترامب، متناسية أن ما قام به ترامب سببه تجاهل بوتين الروسي ومودي الهندي له، وخلاصة الكلام أن العقوبات الأخيرة دليل يأس.

