الشرق الأوسط.. ماذا وإلى أين؟

9

 

 

الجزء السادس عشر:

 

 العراق والشرق الأوسط الجديد – من ساحة الصراع إلى منصة القرار

 

حين تتبدّل موازين القوى، لا تعود الجغرافيا مجرّد حدودٍ، بل تتحوّل إلى مفاتيحٍ للمستقبل. لم يعد الشرق الأوسط كما كان، ولا العراق كما أرادوه أن يبقى. فبعد عقودٍ من الحروب والتجاذبات، بدأ المشهد يتغيّر من جذوره؛ القوى تتبدّل، التحالفات تُعاد صياغتها، والمصالح تُرسم على خرائط جديدة. وفي قلب هذا التحوّل، يبرز العراق ، الذي كان ساحةً لتصفية الصراعات ، ليتحوّل اليوم إلى منصة قرار تحدّد وجهة الشرق الأوسط الجديد.

 

من صراع الوصايات إلى توازن المصالح

منذ عام 2003، كان العراق ساحةً مفتوحة لصراعات الآخرين: أمريكا وإيران، تركيا والخليج، وحتى القوى الكبرى التي جعلت من أرضه ميدان اختبارٍ لنفوذها . لقد تحوّل التدخّل الخارجي من وصايةٍ مباشرة إلى محاولاتٍ للتأثير عبر الاقتصاد والسياسة الناعمة، لكن العراقيين لم يعودوا كما كانوا بعد تشرين؛ فهم اليوم أكثر وعياً بمصالحهم الوطنية، وأقلّ استعداداً لقبول أي وصايةٍ أو اصطفافٍ قسري.

اليوم، يتحوّل العراق تدريجياً إلى مركز توازنٍ لا ساحة نفوذ، عبر سياسةٍ هادئة تهدف إلى:

تحييد الصراعات الإقليمية عن الداخل.

إعادة تعريف العلاقات الخارجية على أساس المصالح المشتركة.

استعادة دوره الجغرافي والسياسي كجسر تواصلٍ بين الشرق والغرب.

 

 الشرق الأوسط الجديد… بلا فوضى

المشروع الجديد في المنطقة لا يقوم على الحروب، بل على الاستقرار والارتباط الاقتصادي. وهنا تتوافق رؤية الغرب مع تطلّعات العرب نحو شرقٍ أوسطٍ آمنٍ ومتصالحٍ مع نفسه. فاستقرار العراق بات شرطاً أولياً لاستقرار الإقليم بأسره، لأن بغداد هي بوابة الفوضى كما هي بوابة السلام.

العراق، بما يملكه من موقعٍ وثرواتٍ وشعبٍ متعطّشٍ للنهضة، يُعد الركيزة الأهم في هذا المشروع. لم يعد مقبولاً أن يبقى خاضعاً للفوضى أو ممزّقاً بين المحاور؛ بل صار مطلوباً أن يكون العنصر الضامن لتوازن المنطقة، ومركز الربط بين مشاريع التنمية في الخليج ومشاريع الطاقة في الشرق.

 من إدارة الأزمات إلى صناعة القرار

كانت بغداد تُستدعى إلى موائد القرار، أما اليوم فهي من يملك الكلمة في اتجاهها. زيارة القادة، عودة الشركات، وتزايد الاهتمام الدولي بالعراق ليست مجاملاتٍ دبلوماسية، بل إقرارٌ بموقعه الجديد في هندسة الإقليم.

ويكفي أن ننظر إلى الدور العراقي في تهدئة التوترات بين الرياض وطهران، أو في ملفّ الغاز والطاقة الأوروبية، لندرك أن بغداد لم تعد مجرّد مقعدٍ في قاعة القرار، بل أصبحت على رأس الطاولة.

العراق أصبح لاعباً فاعلاً في ملفاتٍ كانت تُدار عنه لا به:

الحوار السعودي – الإيراني.

أمن الطاقة العالمي.

إعادة الإعمار الإقليمي بعد الحروب.

كل ذلك يجعل من بغداد عاصمة القرار السياسي والاقتصادي القادم في الشرق الأوسط الجديد.

 

 التحوّل من الداخل

لكن لا يمكن لأي عراقٍ أن يقود الخارج ما لم يُصلح الداخل. فالشرعية الجديدة التي تتشكّل بعد سقوط منظومة الفساد هي القاعدة الحقيقية لموقع العراق الإقليمي. لا يمكن لدولةٍ مخطوفة أن تكون منصة قرار، ولا لشعبٍ مقموعٍ أن يصنع رؤية. ولهذا فإن التحوّل الداخلي السياسي، الاقتصادي، والثقافي هو الشرط الأول للقيادة الإقليمية.

 

 دور بريطانيا والولايات المتحدة

في المعادلة الدولية الجديدة، تتحرّك بريطانيا كـ المهندس السياسي للمرحلة، فيما تظل واشنطن الضامن العسكري والاقتصادي. أما العراق فهو الموقع والمضمون: الموقع الذي يُعيد توازن الشرق، والمضمون الذي يمنح الشرعية للمرحلة القادمة.

بهذه المعادلة، تُبنى شراكة ثلاثية (عراقية، بريطانية، أمريكية) لإنتاج شرقٍ أوسطٍ مستقرّ، تُهمَّش فيه طهران وتُحاصر فيه الفوضى .

بعد أن كان العراق ساحةً للحروب، صار اليوم ساحةً لصياغة التوازن. وبينما تتراجع الأيديولوجيا، ويتقدّم منطق المصالح، يبرز العراق كمفتاحٍ حقيقيّ لولادة الشرق الأوسط الجديد.

من رماد الصراعات يولد عراق القرار، ومن قلب بغداد تُرسم خريطة الشرق الأوسط الجديد؛ شرقٌ لا يُدار بالوصاية، بل تُكتَب ملامحه بإرادة الشعوب. المنطقة تغيّرت، والعراق تغيّر معها، ومن بغداد ستُكتب النسخة الجديدة من الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط. فما بين الأمس الذي كان فيه تابعاً، والغد الذي سيكون فيه مقرّراً، يقف العراق الآن في موقعه الطبيعي: قلب الشرق الأوسط… ومنصة قراره القادمة.

 

يتبع السبت الجزء السابع عشر:

“الرهانات الأمريكية على العراق وقيادة المنطقة”

التعليقات معطلة.