تعيش السياسة الدولية مرحلة إعادة تشكّل عميقة منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية، التي لم تُعد ترتيب أولويات القوى الكبرى فحسب، بل غيّرت أيضاً توازنات النفوذ في مناطق حيوية مثل الشرق الأوسط.
فروسيا، التي كانت قبل الأزمة لاعباً مركزياً يتمتع بمرونة عالية في إدارة علاقاته مع أطراف متناقضة تجد نفسها اليوم أمام مشهد جديد يتطلب صياغة مقاربة أكثر واقعية تجاه الإقليم، تراعي القيود الاقتصادية والعسكرية التي فرضتها الأزمة وتستند في الوقت ذاته إلى إرثها السياسي والعسكري الطويل في المنطقة.
منذ تدخلت روسيا عسكرياً في سوريا رسخت حضورها بوصفها طرفاً لا يمكن تجاوزه في المعادلة الإقليمية لكنها بعد أوكرانيا باتت تواجه بيئة دولية أقل انفتاحاً وأكثر تشككاً في نواياها خصوصاً مع تصاعد المنافسة الأميركية – الصينية وعودة واشنطن لتكثيف حضورها الدبلوماسي والأمني في الشرق الأوسط عبر تحالفات جديدة ومسارات تطبيع ناشئة. ورغم ذلك لم تغب موسكو عن الساحة بل أعادت توجيه أدواتها نحو تعزيز التعاون الاقتصادي والعسكري مع دول الخليج وإيران ومصر، محاولة استثمار حياد العديد من العواصم العربية تجاه الأزمة الأوكرانية لتثبيت شراكات طويلة الأمد تضمن لها هامش حركة في النظام الدولي الجديد.
وفي الوقت الذي تتجه فيه القوى الغربية لإعادة رسم خريطة التحالفات وفق معايير أمنية واقتصادية جديدة، تراهن روسيا على حضورها في ملفات مثل الطاقة والغذاء والتكنولوجيا النووية المدنية باعتبارها قنوات بديلة للحفاظ على نفوذها دون الانخراط في مواجهات مباشرة، كما تسعى إلى إبراز نفسها كقوة داعمة لفكرة التعددية الدولية في مواجهة الهيمنة الغربية وهو خطاب يجد صداه لدى عدد من الدول العربية التي باتت تميل إلى تبني سياسات خارجية أكثر استقلالية وواقعية.
ورغم التحديات، فإن موسكو لا تبدو في طريقها إلى الانكفاء الكامل، فالعلاقات الروسية – الشرق أوسطية اليوم تُبنى على أسس أكثر براغماتية حيث يختفي البُعد الأيديولوجي لصالح المصالح المشتركة والصفقات المتبادلة.
ومع انحسار نفوذ بعض القوى التقليدية وصعود أخرى إقليمية تتجه المنطقة نحو توازن جديد لا يقوم على مركز واحد للقرار بل على تعددية في الشركاء والمصادر وفي هذا السياق، تدرك روسيا أن مستقبل حضورها لن يقاس بمدى قدرتها على بسط النفوذ بل بمدى قدرتها على البقاء طرفاً مقبولاً في معادلة المصالح المشتركة التي يرسمها الشرق الأوسط ما بعد أوكرانيا.

