في مساءٍ هادئ من خريف طوكيو، انطلقت مع أحد الأصدقاء في مسيرٍ وادع حول حديقة القصر الإمبراطوري. لم نكن نخطط لشيء، سوى أن نتخفّف من وطأة السفر الطويل والالتزامات المتواصلة. امتدّت خطواتنا قرابة خمسة كيلومترات بين ظلال الأشجار وانعكاس الأضواء على البحيرة، والمدينة من حولنا تمضي بإيقاعٍ لا يعرف الفوضى. الهواء كان بارداً بما يكفي ليوقظ الحواس، والليل منساباً كأنه يصغي إلى وقع الأقدام. لم نحسّ بالتعب، بل بشيءٍ من الراحة والصفاء. وفي صباح اليوم التالي كان المزاج أكثر إشراقاً والنوم أعمق والجسد أخفّ. بحثنا عن السبب فوجدناه ببساطة في تلك الليلة التي مشينا فيها. ومنذ ذلك اليوم صار المشي عادةً يومية لا تنقطع، لا طلباً للياقة، بل للسكينة التي تصحب الخطوة حين تتخفّف من غاياتها.
المشي في ظاهره حركة بسيطة، لكنه في جوهره فعلٌ يعيد الإنسان إلى اتصاله الأول بالعالم. حين تمشي، يتبدّل إيقاع التفكير، ويجد العقل في الحركة ما يفتقده في السكون. تتغير زاوية النظر إلى الأشياء، وتبدو التفاصيل الصغيرة أكثر وضوحاً، رائحة الشجر، صدى الخطوات، ودفء الضوء على الأرصفة. ليس غريباً أن يرى جان جاك روسو أن الإنسان لا يفكر بصفاء إلا حين يسير وحده، لأن الخطوة في نظره فعل تحرّر من الزيف الاجتماعي، وعودة إلى الطبيعة التي تُعيد ترتيب الفكر بعيداً عن صخب المدن. كان روسو يمشي ليكتب، ويكتب كما لو كان يسير في طريقٍ ممتد داخل ذاته.
أما فريدريك نيتشه فكان يرى أن الجسد هو أداة التفكير الأولى، وأن الأفكار العظيمة لا تولد إلا في الهواء الطلق. كان يمشي في جبال الألب ساعاتٍ طويلة، يترك الجسد يقوده ويترك الفكر يلحق به، لأن العقل يحتاج إلى الحركة كي لا يتحوّل إلى آلةٍ باردة. يقول نيتشه: “لا أصدق فكرة لم تولد أثناء السير”. وربما قصد أن الفكر المنعزل خلف الجدران يفقد حيويته بقدر ما يفقد الجسد حركته. المشي عنده إعادة انسجامٍ بين الفكر والغريزة، بين الروح والعالم، وتمرينٌ على الحرية قبل أن يكون عادةً صحية.
ولأن الفلسفة لا تنفصل عن العلم، فقد جاء الطب الحديث ليؤكد أن العلاقة بين الجسد والفكر ليست مجازاً. فبحسب دراسة منشورة في Harvard Health Publishing عام 2023، فإن المشي المنتظم يرفع مستويات الإندورفين والدوبامين والسيروتونين، وهي الهرمونات التي تحسّن المزاج وتخفف القلق وتُشعر بالرضا. كما تُظهر دراسة حديثة في National Library of Medicine (2024) أن المشي يزيد تدفّق الدم إلى الدماغ، ويُحسّن الذاكرة والانتباه، ويقلّل من إفراز هرمون الكورتيزول المسؤول عن التوتر، مما يجعل النوم أعمق والعقل أكثر صفاءً. وتشير أبحاث أخرى إلى أن المشي المنتظم يعزّز اللدونة العصبية، أي قدرة الدماغ على تكوين روابط جديدة بين الخلايا العصبية، وهو ما يفسّر مرونة التفكير بعد جولات السير الهادئ.
لهذا، فإن المشي ليس نشاطاً بدنياً فحسب، بل ممارسة فكرية وروحية يلتقي فيها الجسد بالعقل، والحركة بالتأمل، والواقع بالفكرة. إنه نوع من التشافي البطيء، لا يُلزمك بالجلوس أو الصمت، بل يمنحك حرية الإصغاء لما لا يُقال. كل خطوة محاولة لاستعادة التوازن بين الداخل والخارج، بين الإنسان وعالمه، بين الضجيج والإصغاء. في كل مسيرٍ صادق مساحة صغيرة للصدق مع الذات وفرصة لمراجعة الأيام من دون أحكام.
أحياناً أشعر أن المشي يُعيد ترتيب الفوضى داخل الرأس، وأن الطرق الطويلة ليست إلا ممراتٍ نحو صفاءٍ أبسط. كل ما يحتاجه الإنسان هو أن يترك هاتفه ويخرج ليمشي بلا هدف. فهناك نوع من المعرفة لا يُمنح إلا أثناء الحركة، ونوع من السلام لا يتحقّق إلا حين يسير الجسد ببطءٍ بينما يتقدّم الفكر بثقة.
في عالمٍ يتسارع كل يوم، يبدو المشي كأنه فعل مقاومة ناعمة ضد الزمن الصناعي. إنه طريقة لاستعادة الإيقاع الإنساني البطيء، الإيقاع الذي يُعيد للأشياء معناها، ويُذكّرنا بأن التقدّم لا يكون في السرعة بل في الانسجام مع إيقاع الحياة نفسها. وربما لهذا قال الفيلسوف الفرنسي فريدريك غروس في كتابه A Philosophy of Walking إن “المشي هو آخر أشكال الحرية الباقية لنا”. فالخطوة المتأنّية ليست انتقالاً من مكانٍ إلى آخر فحسب، بل إعلانٌ هادئ عن أن الإنسان ما زال قادراً على الإصغاء إلى صوته الداخلي وسط ضجيج هذا العالم.


 
						 
						