الشرق الأوسط.. ماذا وإلى أين؟

15

 

 

الجزء الثامن عشر:

 

الحاكمية الفارسية بغطاء ديني كيف شوّهت إيران صورة الشيعة العرب؟

 

في مسار التحولات الكبرى التي عرفها الشرق الأوسط منذ مطلع القرن العشرين، لم تكن إيران بعيدة عن لعبة رسم الهويات وتفكيك الانتماءات. لكنها – بخلاف غيرها – اختارت الدين وسيلةً لتوسيع نفوذها، فغلفت مشروعها القومي بغطاءٍ عقائدي، وقدّمت نفسها للعالم على أنها “راعية التشيّع”، بينما كانت في الحقيقة تصنع هويةً سياسية فارسية الطابع، شيعية المظهر.

فما يُروَّج له اليوم على أنه “حاكمية شيعية” ليس سوى وهمٍ سياسي. فالحاكمية الحقيقية ليست بيد الشيعة العرب، بل بيد منظومة فارسیة تتلحّف بالدين والمذهب لتفرض وصايتها على القرار الشيعي وتغيب صوته العربي الأصيل. الحاكمية التي تتحدث باسم التشيع اليوم لا تمثل فكر عليٍّ ولا نهج الحسين، بل تمثل ولاية سياسية مقنّعة بعمامة دينية. أما النجف العربية، فهي الحاكمية الحقيقية التي ما زالت تحمل روح الإسلام الإنساني، وتؤمن بالوطن لا بالمذهب، وبالضمير لا بالسلطة. وهكذا يتضح أن ما نراه ليس حاكمية شيعية، بل حاكمية فارسية بغطاء ديني، تسعى إلى كسر استقلال القرار العربي الشيعي الذي حمل مشعل الفكر والحرية منذ قرون .

 

منذ عام 1979، اتخذت إيران من الثورة الإسلامية واجهة لتصدير مشروعها، لكنها في الجوهر عملت على تشويه صورة الشيعة العرب، وإضعاف موقع المرجعية العربية في النجف، وإبراز قم كبديلٍ سياسيٍ لا دينيٍ فحسب. فحينما كان العرب الشيعة يتطلعون لبناء دولة وطنية مدنية تشارك فيها كل المكونات، كانت طهران تزرع داخلهم شعور التبعية، وتجعل من الانتماء المذهبي سلاحًا في وجه الهوية الوطنية.

لقد أرادت إيران أن تُبقي “الشيعي العربي” في موقع الاتهام، كأنه تابع، لا شريك. فاختزلت التشيع في الولاء السياسي، وربطته بالحرس الثوري، وحرّفت رمزية “المظلومية التاريخية” إلى مشروعٍ للانتقام من الجغرافيا العربية نفسها. ومن هنا بدأت الصورة تُشوَّه: تحوّل المذهب إلى أداة سلطة، وتحول المتدين إلى أداة صراع، وتحول الانتماء إلى ورقة مساومة.

لكن الحقيقة أن الشيعة العرب، تاريخيًا، كانوا رواد فكرٍ وسياسةٍ وثقافةٍ، فمنهم انطلقت الأحزاب القومية والشيوعية، ومنهم تخرّجت الكفاءات الوطنية الكبرى التي ساهمت في بناء الدولة العراقية الحديثة. هؤلاء لم يكونوا يومًا طائفيين، بل كانوا عروبيين في وجدانهم، ووطنيين في مواقفهم، واعتبروا الدين قيمةً أخلاقيةً لا وسيلة سلطة.

غير أن إيران، منذ ثمانينات القرن الماضي، سعت إلى طمس هذا التاريخ، وتقديم نموذجٍ مغايرٍ تمامًا: شيعة لا دولة لهم إلا الولي الفقيه، ولا قرار لهم إلا من طهران، ولا مستقبل لهم إلا عبر المشروع الفارسي. ومن هنا بدأت معركة تشويه الصورة، إذ صُوِّر الشيعة العرب على أنهم عاجزون عن الحكم، غير مؤهلين لبناء دولة، وأنهم بلا تجربة سياسية ناضجة، في حين أن الواقع يثبت العكس.

اليوم، بعد أن تهاوت الأقنعة، يظهر جليًا أن ما يُسمى بـ “محور المقاومة” لم يكن سوى غطاء لتكريس هيمنة فارسية على القرار العربي، وأن الصراع لم يكن مذهبيًا بقدر ما هو صراع على هوية الشرق الأوسط الجديد: هل سيبقى خاضعًا للهيمنة التي صيغت منذ عام 1979؟ أم سيعود إلى التوازن العربي الذي يفتح الطريق نحو نظامٍ إقليميٍ جديد؟

إن معركة استعادة الصورة الحقيقية للشيعة العرب ليست دينية ولا مذهبية، بل وطنية بامتياز، لأنها معركة وعيٍ ضد التزوير، ومعركة هويةٍ ضد التبعية .

فمعركة الشيعة اليوم ليست مع مذهبهم ولا مع عقيدتهم، بل مع من صادر هويتهم الوطنية باسم الطائفة. واستعادة صورتهم الحقيقية تبدأ من وعيهم بأنهم أبناء حضارة لا أتباع سلطة، وأن المرجعية العراقية العربية هي الحصن الأخير في وجه مشروعٍ أراد أن يجعل من التشيع جغرافيا سياسية لا مدرسة إنسانية.

 

يتبع غدا: الجزء الناسع عشر العراق.. من التبعية إلى التوازن ملامح التحول القادم في القرار الشيعي العربي

التعليقات معطلة.