الشرق الأوسط.. ماذا وإلى أين؟ 

23

 

 

الجزء الواحد والعشرون:

 

النفط مقابل الماء.. صفقة غير معلنة رسمت حدود الضعف العراقي

 

منذ أن انحنى دجلة وذبل الفرات، لم يعد العطش في العراق مجرّد خللٍ مناخي أو موسم جفافٍ عابر، بل تحوّل إلى مؤشرٍ سياسيٍّ على انكسار الإرادة الوطنية أمام لعبة المصالح الإقليمية. فما يُقدَّم على أنه أزمة مياه، يخفي في جوهره مشروعًا استراتيجيًا تُعيد أنقرة من خلاله هندسة علاقتها ببغداد، مستفيدةً من هشاشة الموقف العراقي وارتباك قراره السيادي.

تركيا، التي أدركت باكرًا أن الحروب المقبلة لن تُدار بالبندقية بل بالصمّامات والسدود، نجحت في تحويل الماء إلى أداة ضغطٍ إقليمي فعّالة. فمشروع “الأناضول الكبرى” لم يكن مجرد خطة تنموية كما يُروّج له في الإعلام التركي، بل برنامجٌ جيوسياسيٌّ متكامل لاحتكار منابع دجلة والفرات، وربط أمن المياه بأمن الطاقة. وهكذا وُلدت المعادلة الجديدة: النفط مقابل الماء.

هذه المعادلة لم تُكتب رسميًا، لكنها أصبحت واقعًا ميدانيًا يُترجم في كل تفاهمٍ “اقتصادي” جديد بين بغداد وأنقرة. فكلما شدّت تركيا على عنق النهر، رخا العراق خيوط نفطه نحو الشمال. وكلما زاد العطش في الجنوب، تدفقت الشاحنات المليئة بالنفط الخام نحو الموانئ التركية.

لكنّ المفارقة الأكثر مرارةً أن الصفقة الأخيرة، التي تمّ الترويج لها على أنها “اتفاق استراتيجي لتأمين حصة العراق المائية”، جاءت عشيّة الانتخابات، في لحظةٍ سياسيةٍ حساسة أراد رئيس الوزراء محمد شياع السوداني استثمارها لإظهار نفسه بمظهر “المنقذ”، ولو على حساب ثروات الشعب وحقوقه المائية.

لقد رُوِّج للاتفاق في الإعلام الرسمي كـ”إنجازٍ وطني” يضمن تدفق المياه من تركيا إلى العراق، بينما الحقيقة أن أنقرة لم تقدّم أي التزامٍ ملزمٍ قانونيًا، بل اكتفت بعبارات فضفاضة تُتيح لها الاستمرار في التحكم بالمنسوب المائي وفق مصالحها. في المقابل، قدّم العراق تنازلاتٍ اقتصادية واضحة في ملف النفط المصدر عبر الأراضي التركية، وبشروطٍ تضمن لتركيا مكاسب طويلة الأمد، تحت عنوان “التعاون المشترك”.

أي إنّ الحكومة العراقية، في لحظةٍ انتخابيةٍ حساسة، قبِلت أن تُقايض الماء بالزيت، وأن تُحوّل أزمة وطنية إلى أداة دعاية انتخابية. فبدل أن تكون المفاوضات لحماية سيادة العراق، جرى توظيفها لتلميع صورة السلطة، وتقديم مشهدٍ إعلامي يُخاطب العاطفة لا الوعي.

لقد أراد السوداني أن يظهر كمن يملك “مفتاح الحل”، بينما الحقيقة أن المفاتيح كلها في أنقرة، والبوابات تُفتح وتُغلق بقرارٍ تركيٍّ لا عراقي. والمأساة أن الرأي العام العراقي استُدرج إلى تصديق رواية “الإنجاز”، بينما الصفقة في حقيقتها تكريسٌ للتبعية المائية والاقتصادية، واستثمارٌ انتخابيٌّ قصير المدى ستكون له آثارٌ استراتيجية طويلة الأمد.

أنقرة لم تغيّر موقفها منذ الثمانينات: فهي تعتبر دجلة والفرات “أنهارًا عابرة للحدود” وليست “أنهارًا دولية”، أي أنها تملك حق التحكم بها وفق سيادتها الداخلية. لكن الجديد اليوم هو أن العراق نفسه بات يتصرّف وكأنه طرفٌ تابعٌ في معادلة المياه والطاقة، لا صاحب حقٍّ تاريخيٍّ وسيادي.

في ظل غياب استراتيجية مائية وطنية واضحة، تحوّل الملف إلى ورقة مساومة موسمية. وكل حكومة تأتي تُوقّع تفاهماتٍ مؤقتة لا تُلزم أحدًا، ثم تعرضها كإنجازٍ على الشعب. وهكذا تتكرر المسرحية ذاتها: عطشٌ في الجنوب، واحتفالاتٌ في بغداد.

الماء الذي كان سرّ حضارة الرافدين، صار اليوم رمزًا لابتزازها. والعراق الذي كان يهب المنطقة النفط والحضارة، أصبح يُستدرج بضعفِه ليُسلّم أوراقه واحدةً تلو الأخرى، تحت شعارات “التعاون المشترك” و”حسن الجوار”.

أما تركيا، فقد ربحت الجولة بذكاءٍ استراتيجيٍّ ناعم. لم تحتج إلى التصعيد أو التهديد العسكري، بل اكتفت بلعب دور الجار “المتعاون” الذي يمنح القليل ليأخذ الكثير. فهي تعلم أن العراق منقسمٌ سياسيًا واقتصاديًا، وأن قرارته مرهونةٌ لتوازناتٍ إقليمية ودولية، ما يجعل أي اتفاقٍ معه قابلًا للتكيّف وفق مصالحها.

في العمق، ليست الصفقة الأخيرة سوى جزءٍ من تحالف المصالح التركي–الأميركي في المنطقة، والذي يسعى إلى تثبيت أنقرة كلاعبٍ رئيسي في هندسة “الشرق الأوسط الجديد”، مقابل تحجيم النفوذ الإيراني من جهة، وإبقاء العراق في موقع “الممرّ الاقتصادي” لا “الفاعل السياسي”. وبهذا، يتحوّل العراق إلى مجرد مساحة تُدار من الخارج، لا دولةٍ تُقرر مصيرها.

إنّ القبول بهذه المعادلة يعني أن السيادة العراقية تُباع بالتقسيط: مرة على شكل اتفاق نفطي، ومرة على شكل تفاهم مائي، ومرة في صمتٍ رسمي أمام تمددٍ تركيٍّ عسكريٍّ متزايد في الشمال.

لكن التاريخ لا يرحم الصفقات التي تُبرم في لحظات الضعف. فكلّ تنازلٍ اليوم سيُترجم غدًا بعطشٍ أشدّ، وكلّ صمتٍ رسمي سيُكلف الأجيال القادمة نهرًا جديدًا يجفّ.

لقد أصبحت السياسة في العراق تُدار بمنطق “التهدئة الانتخابية”، لا بمنطق المصالح الوطنية. تُقدَّم التنازلات باسم “الاستقرار”، وتُوقَّع الاتفاقات باسم “الإنجاز”، لكن ما يُنجز فعليًا هو تآكل الدولة أمام طوفان الطموح التركي، وانكماش الإرادة العراقية إلى حدود الشعارات.

في النهاية، ليست الكارثة في قلة الماء، بل في كثرة الصمت. وليس الخطر في سدود تركيا، بل في السدّ الكبير الذي يُحاصر القرار العراقي داخل دائرة العجز والخضوع.

إنّ “النفط مقابل الماء” ليست مجرد صفقة اقتصادية، بل عنوانٌ لمرحلةٍ تُختزل فيها سيادة العراق بقراراتٍ موسمية، وتُختزل فيها الوطنية بصورةٍ تُبثّ قبل الانتخابات، لا بموقفٍ يُكتب في التاريخ.

وما بين الصفقات والانتخابات، يبقى الوطن هو الخاسر الأكبر، وتمضي تركيا في رسم خرائطها المائية… بينما يواصل العراق انتظار “المنسوب” الذي لن يعود كما كان .

 

يتبع غدا الجزء الثاني العشرون: “صراع النفوذ بين سافايا وقاآني خارج إرادة العراقيين الوطنية”

التعليقات معطلة.