ما الذي يستفز الكتّاب، وخاصة كتّاب الرأي، ليدفعهم إلى التعبير عن آرائهم ومواقفهم التي يمكن أن تكلفهم غالياً أحياناً في ظل انخفاض أسقف الحريات في مختلف دول العالم، وإن بتفاوتات مفهومة؟ هذا السؤال ربما يحمل ضمناً إجابته البديهية، وهي أن الأمور التي تستفز كاتباً أو تدفعه للكتابة تختلف من مجتمع لآخر بحسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ومع ذلك فإن اختيار الكتابة للتعبير عن رأي أو موقف هو في حقيقته فعل قرار يتشابه عند معظم هؤلاء الكتّاب، فلو أننا بحثنا في تاريخ معظم هؤلاء لوجدنا تشابهاً في منشأ تلك اللحظة الغامضة التي لا تأتي من قرار واعٍ باختيار الكتابة بقدر ما جاءت من اضطرار داخلي، أي حدوث أمر خارجي تصادم مع قناعة داخلية لدى الكاتب جعله يذهب للتعبير عن رفضه أو معارضته أو قهره…إلخ.
بعد أن يجرب هذا الخيار وعلى مدى سنوات من الكتابة يمكن أن نستخلص أن ما يستفز الكاتب ويدفعه إلى الكتابة، وإن اختلف في الشكل والظروف، لكنه واحد في أساسه: الرغبة في فهم ما يحصل حوله، والنجاة من كل هذه الكوارث والورطات والمآسي التي يتسبب فيها الجهل وعدم الوضوح.
كثيراً ما سُئلت عمّا دفعني للكتابة لأول مرة، وقد تحدثت في ذلك مراراً، عن ذلك الموقف الذي اصطدم بمبدأ لا يقبل المسّ عندي وهو ظلم الآخر وقهره، هذا الدافع أو هذا الموقف المباشر يمكنني تسميته بالجرح الأول، الذي أسال الكثير من مخزون الذاكرة ليصنع ذلك المقال الأول.
ومثل كثير من الكتّاب تبدأ الكتابة المتمردة الأولى من خدش صغير في الذاكرة، من تعرض سابق للظلم، للقهر، أو من فقد لم يُشفَ منه، أو من خيبة أو دهشة أولى جعلته يشعر بأن العالم لا يُفهم إلا بالكتابة.
الكتابة هنا ليست ترفاً، بل وسيلة لترميم ما انكسر، أو لإعادة ترتيب الفوضى الداخلية.
كما قال كافكا: «الكتابة شكل من أشكال الصلاة».
فالكاتب إذن يكتب ما يكتبه وبطريقته لأن الكلام العادي لا يكفي!

