يبدو أن للتاريخ حسًّا ساخرًا لا ينضب . فبعد أكثر من ثلاثة عقود على إعلان الولايات المتحدة انتصارها على الشيوعية، يعود “الشبح الأحمر” من جديد ، لا من موسكو هذه المرة ، بل من نيويورك ، القلب المالي للعالم والرئة التي تتنفس منها الرأسمالية منذ أكثر من قرن.
لقد فاز الزهران، العمدة الشيوعي الجديد، في واحدة من أكثر المدن الأمريكية نفوذاً وتأثيراً. المدينة التي ولدت فيها وول ستريت، وصيغت فيها معادلات السوق الحر، باتت اليوم تُدار بخطابٍ يدعو إلى العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة، وإحياء ما كان الغرب يظنه فكرةً ماتت مع سقوط جدار برلين .
من سقوط موسكو إلى صعود نيويورك
حين انهار الاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينيات، ظنّ الغرب أن صفحة الشيوعية قد طُويت إلى الأبد، وأن “نهاية التاريخ” قد كُتبت لصالح الليبرالية الأمريكية. لكنّ التاريخ لا يكتب نهاياتٍ نهائية، بل يؤجلها. واليوم، يبدو أن الشيوعية لم تمت ، بل غيّرت شكلها، وأعادت ترتيب خطابها، وعادت من بوابة الديمقراطية الأمريكية نفسها.
فلم تعد راياتها تُرفع في الساحات الثورية، بل في صناديق الاقتراع، حيث صوّت الناس ، لا حباً بالأيديولوجيا ، بل تعباً من نظامٍ وعدهم بالرخاء فأخلف واثرى القلّة بالثروة وترك الكثرة في الهامش .
الزهران… “اليساري الذي دخل وول ستريت من بابها”
صعود الزهران لم يكن مفاجأة انتخابية فقط، بل تعبيراً عن أزمة أعمق .فبين جيلٍ أثقلته ديون الجامعات، وطبقةٍ عاملةٍ أنهكها الغلاء، ومدينةٍ يتحكّم بها المال أكثر مما يحكمها القانون، جاء خطابه بسيطاً وصادقاً .
“العدالة قبل الأرباح.”
هذا الشعار، الذي كان يُعدّ في زمنٍ مضى ضرباً من الخيال، صار اليوم صوت الواقعية الجديدة. أنصاره ليسوا ثواراً حُمر الشعارات، بل موظفون ومدرسون وممرضات، يرون في الزهران صورةً لرجلٍ قرر أن يقول بصوتٍ مرتفع ما يهمس به الملايين .
حين تتعب الرأسمالية من نفسها
الولايات المتحدة التي أسقطت الشيوعية خارج حدودها، تسقط اليوم أمامها داخل حدودها. لقد ولّد النظام الرأسمالي طبقةً صغيرة تملك كل شيء، وطبقةً واسعة لم تعد تملك حتى الأمل .تراجع الحلم الأمريكي إلى مجرد شعارٍ يُباع على شاشات الإعلانات، بينما الواقع يزداد قسوةً وغُربة .
وعندما تتعب الشعوب من وعود السوق، لا تحتاج الشيوعية إلى الانقلاب؛ يكفي أن تطرق الباب بأفكارٍ قديمة وبثوبٍ جديد .
حرب باردة بلغة دافئة
صحيح أن نيويورك لن تتحول إلى هافانا، لكنّ الصراع الأيديولوجي لم ينتهِ، بل عاد بهدوءٍ وذكاء . فالشيوعية الجديدة لا ترفع راية الثورة، بل راية الإصلاح .لا تتحدث عن إسقاط النظام، بل عن “تصحيح مساره”. وهي في ذلك أكثر خطورة من نسختها القديمة، لأنها تدخل من بوابة الديمقراطية لا من خنادق المواجهة.
شبح ماركس يتجوّل في مانهاتن
من كان يتخيّل أن أفكار ماركس ستعود لتتجوّل بين أبراج مانهاتن وأسواق وول ستريت؟ إن فوز الزهران لا يغيّر وجه أمريكا فحسب، بل يكشف عن أزمة هوية عميقة في قلب النظام الأمريكي نفسه. لقد هزم الأمريكيون الشيوعية يوماً، لكنهم يعودون اليوم إلى التصويت لها، لا إعجاباً بها، بل يأساً من نظامهم .
ما حدث في نيويورك ليس صدفة انتخابية، بل جرس إنذار سياسي وفكري . إنه إعلانٌ بأن الأفكار لا تموت ، بل تخلد في الذاكرة الجماعية، تنتظر لحظة الإنهاك لتعود من جديد .
واليوم، في عالمٍ تزداد فيه الفوارق، ويُستبدل فيه الأمل بالديون، ربما بدأ الشبح الأحمر جولته من جديد .لكن المفارقة أنه هذه المرة لا يأتي غازياً من الشرق، بل ناهضاً من بين أنقاض الحلم الأمريكي نفسه.

