هل تنذر مجازر الفاشر بانقسام “الدعم السريع”؟

11


بات التشرذم داخلها عبئاً ذاتياً يتفاقم بمرور الوقت ويراقبها الجيش السوداني برضا صامت متمنياً استنزاف خصمه

منى عبد الفتاح





تظهر التقارير التحليلية أن طبيعة “الدعم السريع” نفسها تجعله عرضة للانقسام أكثر من أي وقت مضى (أ ف ب)



ملخص
تقف “الدعم السريع” عند منعطف حاسم، فإما أن تتحول إلى كيان سياسي – عسكري جديد بإرادة داخلية، أو تتآكل حتى الانفجار، تاركة خلفها فسيفساء من الميليشيات المتنازعة التي ستعيد تشكيل الجغرافيا السودانية على صورتها المتعبة، ولكن بملامح أكثر فوضوية.

تعود قضية الانشقاقات في صفوف قوات “الدعم السريع” إلى الواجهة من جديد، بين روايات متضاربة وصور تلهب المخيلة العامة وتغذيها حسابات على منصات التواصل الاجتماعي، تعيد تدوير مقاطع قديمة لتكسبها معنى راهناً. فالفيديو الذي أعيد تداوله مطلع أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ويظهر فيه مسلحون يعلنون انشقاقهم عن القوات شبه العسكرية، لم يكن وليد اللحظة، بل سبق ظهوره قبل ذلك. غير أن انتشاره المتجدد بعد أحداث الفاشر الأخيرة، وما تبعها من مجازر وأعمال عنف أضفى عليه طابعاً من الواقعية السياسية الملتهبة، وكأنه يتماهى مع روح مرحلة قد تتبدل فيها موازين القوة والشرعية على نحو غير محسوب.

في خلفية المشهد، لا يمكن قراءة هذه المؤشرات بمعزل عن التوترات المتصاعدة داخل بنية “الدعم السريع” نفسها، التي تواجه خلال الآونة الأخيرة خسائر ميدانية ومعنوية متراكمة، مما قد يحدث تصدعات صامتة في جسدها التنظيمي. فحتى وإن لم تأخذ الانشقاقات طابعاً منظماً بعد، فإن تآكل الروح القتالية في بعض الجبهات، وارتباك القيادة أمام ضغط الرأي العام المحلي والدولي، يفتحان الباب لتساؤلات عميقة حول مدى تماسك هذه القوة التي نشأت أصلاً على مفارقة الولاء بين القبيلة والمركز.

تتجاوز المسألة كونها مجرد تداول لمقطع مصور، لتغدو مرآة تظهر هشاشة التحالفات الميدانية في الحروب الداخلية، حين تتقدم دوافع النجاة والانتماء الأهلي على مقتضيات الانضباط العسكري. وهي لحظة يتكشف فيها ما كان مستوراً خلف خطاب القوة والسيطرة، تململ الأفراد من خطاب القيادة، وتزايد الشكوك داخل الدوائر الدنيا، وتآكل صورة “القوة المنتصرة” بفعل تراكم الفظائع وامتداد الاستنزاف.

وهكذا، فإن ما يتداول من “انشقاقات”، سواء كانت حقيقية أم رمزية، يعكس في الأساس نمو بذرة دينامية تشظي الثقة وانكماش المشروع العسكري لدى “الدعم السريع” في مواجهة سؤال البقاء. وهي دينامية أعمق من مجرد حدث عابر، فحتى الجيش الذي بني على منطق مشروعية القوة والدفاع، تتهدده تصدعات حين يتجاوز دوره المنوط به.

مسار مضطرب
تكشفت انشقاقات ميدانية متفرقة في بنية “الدعم السريع” التنظيمية، فخلال الـ27 من أغسطس (آب) 2024، اندلعت اشتباكات دامية بين فصيلين من “الدعم السريع” داخل بلدة مليط شمال دارفور، إثر خلاف على نهب السوق المحلية. وأسفرت المعارك عن مقتل سبعة مقاتلين وتدمير مركبتين، بينما أغلقت الأسواق وأجبر السكان على الاحتماء داخل منازلهم. مثلت تلك الأحداث إشارة مبكرة إلى عمق الانقسامات داخل صفوف القوة التي كانت سيطرت على المدينة خلال أبريل (نيسان) الماضي، وانقسم مقاتلوها وفق خطوط جهوية وقبلية، مما كشف عن أن “التحالف القتالي” الذي جمعهم بدأ يتآكل تحت وطأة الصراع على النفوذ والغنيمة.



أطفال عالقون في الفاشر يواجهون الموت وفارون يحاصرهم الجوع
وخلال الـ20 من أكتوبر 2024، برزت حال انشقاق لافتة حملت دلالات عسكرية وسياسية أوسع، حين أعلن قائد قوات “الدعم السريع” في ولاية الجزيرة اللواء أبو عاقلة كيكل، انضمامه إلى الجيش السوداني برفقة مجموعة من مقاتليه. واعتبر انشقاق كيكل ضربة موجعة لبنية القيادة الميدانية لـ”الدعم السريع”، إذ جاء بعد أشهر من احتدام المعارك في وسط السودان، ولعبت قواته دوراً محورياً في السيطرة على مناطق زراعية حيوية. أرجع كيكل خطوته إلى “انحراف القيادة العليا عن مقاصدها الوطنية، وتحولها إلى مشروع شخصي يستنزف أرواح السودانيين”. وأكد ضمن تصريحات لاحقة، أن واجبه الأخلاقي والعسكري يقتضي الانحياز إلى الجيش “الذي لا يزال يمثل رمز الدولة وبقية مشروعها الوطني”.

لا يمكن المبالغة في تقدير أهمية القادة المحليين والجهات المسلحة الفرعية في رسم ملامح الحرب السودانية الراهنة، إذ باتت خطوط الولاء فيها متحركة على نحو يعكس هشاشة التحالفات وتبدل موازين القوة على الأرض. وفي هذا الإطار، تمثل حال اللواء كيكل مثالاً بارزاً على الطابع الانسيابي للولاءات في المشهد السوداني المعقد. فقد كان كيكل ضابطاً متقاعداً من الجيش، أسس عام 2022 قوات “درع السودان”، التي جندت عناصرها من قبائل في ولاية الجزيرة. وعندما اندلعت الحرب انحاز إلى الجيش وقاتل معه ضد قوات “الدعم السريع”، ثم انضم إليها خلال أغسطس 2023، مسهماً في سقوط ود مدني بيدها خلال ديسمبر (كانون الأول). غير أنه ما لبث أن انشق خلال أكتوبر 2024، عائداً إلى صفوف الجيش، وأسهم مع قواته في استعادة المدينة خلال يناير (كانون الثاني) 2025، قبل أن يشن هجمات انتقامية ضد قرى عدت موالية لـ”الدعم السريع”، في مشهد يلخص كيف تتحول التحالفات إلى أدوات لتصفية الحسابات المحلية بقدر ما تعكس صراع المركز على السلطة.

انشقاقات متفاوتة
خلال الـ26 من أكتوبر 2024، أعلن خمسة من مستشاري قائد “الدعم السريع” انضمامهم إلى الجيش السوداني، متهمين قائدهم محمد حمدان دقلو (حميدتي) بالسعي إلى الاستيلاء على السلطة والسيطرة على سواحل البحر الأحمر لمصلحة قوى خارجية. وكشف المنشقون، ضمن مؤتمر صحافي ببورتسودان، عن مشاريع بقيمة 30 مليار دولار لتشييد موانئ ومطارات ومعسكرات بحرية، قالوا إنها كانت ستقوض السيادة الوطنية. واتهموا جهاز إعلام “الدعم السريع” بأنه يدار من الخارج عبر شركة إسرائيلية، وأن الحرب لم تشعلها الخلافات السياسية وحدها، بل طموحات شخصية عميقة الجذور. وتعهدوا مخاطبة الاتحاد الأفريقي والمجتمع الدولي لوقف ما سموه “شرعنة التمرد”.

خلال نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، أعلن العميد خلا محمدين أرقجور انشقاقه عن “الدعم السريع” وهربه إلى تشاد. وأرقجور ينتمي إلى قبيله الزغاوة، وكان مسؤولاً عن قطاع كردفان. تلك الانشقاقات، المتفاوتة في دوافعها وحجمها، لم تكن حوادث معزولة بقدر ما كانت تجليات لأزمة بنيوية في هيكل “الدعم السريع” ذاتها، الذي نشأ كقوة هامشية تبحث عن مركز، ثم تحولت إلى مركز مأزوم تتنازعها الولاءات والشكوك.




وإذا كان الجيش السوداني يعتمد على الميليشيات كأذرع قتال موازية، فإن قوات “الدعم السريع” تعتمد على شبكة أعقد من التحالفات القبلية والعابرة للحدود. فعلى رغم الجهود التي بذلها حميدتي لتوسيع قاعدة التجنيد وإضفاء طابع وطني على قواته، فإنها لا تزال في جوهرها امتداداً لتطور الميليشيات العربية الدارفورية التي تشكلت قبل عقدين. عند تأسيسها عام 2013 قدر عدد أفرادها بـ6 آلاف مقاتل فحسب، لكن مع اندلاع الحرب الأخيرة تراوحت التقديرات بين 70 و300 ألف جندي، بفضل قدرتها المبكرة على دفع رواتب مجزية استقطبت مقاتلين من تشاد ومنطقة الساحل الأفريقي، إضافة إلى مجموعات سودانية خارج قاعدتها الاجتماعية التقليدية.

غير أن هذا الاتساع الكمي لم يترجم إلى تماسك نوعي، فالمجندون الجدد ظلوا خاضعين لزعاماتهم المحلية، لا لقيادة “الدعم السريع” المركزية، مما أدى إلى تناقضات في الأوامر وتضارب في المصالح. وفي بعض المناطق تحولت التحالفات إلى تفاهمات تكتيكية قصيرة العمر، سرعان ما انهارت مع تراجع الموارد. ومع انحسار قدرة القيادة على تمويل مقاتليها تزايد اعتمادهم على النهب والسلب كمصدر عيش موقت، في دلالة على انهيار الانضباط العسكري وتفتت البنية التنظيمية. وهكذا بات التشرذم داخل “الدعم السريع” عبئاً ذاتياً يتفاقم بمرور الوقت، يراقبها الجيش السوداني برضا صامت، متمنياً أن يستنزف خصمه الأشد خطراً من داخله.

شرخ متنام
لم تعد الشروخ في جسد قوات “الدعم السريع” خفية كما كانت، فالحرب الطويلة التي أعادت رسم الجغرافيا والعلاقات داخل السودان، بدأت الآن تعيد تشكيل البنية الداخلية لأحد أكثر التشكيلات المسلحة نفوذاً وغموضاً في تاريخ البلاد. ما كان يعد تململاً عابراً صار اليوم توتراً متنامياً تغذيه انتهاكات ميدانية وضغوط سياسية وإنسانية، وانكشاف أخلاقي غير مسبوق أمام الرأي العام المحلي والدولي.

تظهر التقارير التحليلية أن طبيعة قوات “الدعم السريع” نفسها تجعلها عرضة للانقسام أكثر من أي وقت مضى. فهي كيان شبكي، لا مركزي، يقوم على الولاءات القبلية والروابط الشخصية، لا على هيكل مؤسسي متماسك. ومع كل خسارة ميدانية أو انقطاع في التمويل، يتراجع صمودها البنيوي. فالمقاتل الذي كان يرى في الانتماء لـ”الدعم السريع” وسيلة للبقاء أو الثراء، بات يرى فيه عبئاً أخلاقياً ومأزقاً وجودياً، خصوصاً بعد مجزرة الفاشر التي أحدثت صدمة داخلية عميقة حتى بين صفوف مناصري القوات أنفسهم.



وثقت الأمم المتحدة ومكاتب حقوق الإنسان “تقارير مروعة” عن إعدامات جماعية وانتهاكات ضد المدنيين في محيط الفاشر بما فيها حالات اغتصاب. مثل هذه الجرائم لا تترك آثارها على الضحايا وحدهم بل تمتد إلى الجناة أنفسهم. فمع تصاعد الإدانات الدولية واهتزاز صورة قوتها، بدأ الحديث عن تململ في بعض الوحدات المحلية التابعة لـ”الدعم السريع”، وانسحاب مجموعات صغيرة أو امتناعها عن القتال. هذه ليست انشقاقات منظمة بعد، لكنها مؤشرات إلى تفكك مقبل إذا ما استمر الضغط بالوتيرة نفسها.

إقليم دارفور، الذي كان عُمق “الدعم السريع” الاستراتيجي، يشهد بدوره تبدلات في الولاءات. بعض الفصائل التي كانت حليفة للقوات أو متحالفة معها بحكم الضرورة، بدأت تنأى بنفسها أو تعيد تعريف مواقفها باعتبارها “قوى مستقلة”. هذه التحولات تعكس خللاً في منظومة التحالفات أكثر مما تعكس استراتيجية مركزية، لكنها كافية لتحدث شرخاً متنامياً في جدار “الدعم السريع”.

الظروف التي تهيئ لانشقاق داخلي شامل باتت مكتملة تقريباً، تراجع مالي، وتآكل القيادة، وتصدع الثقة بين المقاتلين، وضغوط حقوقية متزايدة تجعل الاستمرار عبئاً أخلاقياً وسياسياً. وعلى رغم أن الانشقاق الكبير لم يعلن بعد، فإن كل المؤشرات تشير إلى أنه، إن لم يكن بدأ فعلاً في الخفاء، فإنه يقترب من لحظة الانفجار الحتمي.

كيان جديد
داخل منظومة “الدعم السريع” وحلفائها، برز تياران متناقضان بعد مجزرة الفاشر، واحد يرى أن الدماء التي أريقت تجاوزت الحد الأخلاقي والسياسي، وأن الاستمرار في النهج الحالي يعني عزلة مطلقة داخلياً ودولياً، ويقوده جناح “تأسيس” الذي دعا إلى تهدئة شاملة وإعادة تموضع سياسي قبل أن تتحول قوات “الدعم السريع” إلى عبء على نفسها. في المقابل، يقف تيار صلب يعتقد أن أي تراجع هو هزيمة، وأن بقاء “الدعم السريع” مرهون بالاستمرار في منطق القوة المطلقة، مهما كان الثمن.

يستند دعاة التهدئة إلى قراءة واقعية للوضع، الفاشر كشفت هشاشة التحالفات المحلية، وأظهرت أن الرصيد المعنوي والمالي للقوات آخذ في النفاد. والضغوط الدولية والاتهامات بالجرائم ضد الإنسانية جعلت بعض القادة الميدانيين يدركون أن النجاة الفردية لم تعد مضمونة. بعض هؤلاء بدأ بالفعل في عقد تفاهمات غير معلنة مع وسطاء إقليميين ودوليين، في محاولة لتأمين مخرج سياسي يحفظ ماء الوجه.

أما معسكر الاستمرار في الحرب، فيستند إلى منطق السيطرة عبر الرعب، ويعد أن أية تهدئة الآن ستترجم إلى تفكك ميداني. هؤلاء يرون أن الفاشر ليست كارثة بل ضرورة، وأن الخشونة في القتال تمنع الجيش من استعادة التوازن. ومع ذلك، يواجه هذا التيار تآكلاً بطيئاً في قاعدته، إذ بدأت وحدات ميدانية تظهر تردداً في تنفيذ الأوامر أو تبدي ميلاً إلى الانسحاب نحو مناطقها الأصلية.

تشير المؤشرات الميدانية إلى أن الانشقاق داخل “الدعم السريع” لم يعد مجرد احتمال، بل مسار يتشكل بصمت. الانقسام بين “تأسيس” والقيادة العسكرية التقليدية قد ينتج كياناً جديداً (’دعم سريع‘ جديدة) يعيد تعريف نفسه كقوة أمنية انتقالية ذات طابع محلي أكثر من كونها مشروع سلطة. هذا السيناريو، على رغم أنه يبدو نظرياً فإنه يجد دعماً ضمن السياق الحالي، الإرهاق القتالي، وتفكك الموارد، وضغوط الإقليم الباحث عن استقرار قابل للتفاوض.

في المقابل، إذا تغلب التيار المتشدد فسيكون الثمن باهظاً، حرباً أطول، ومزيداً من الانقسامات، وانهياراً متسارعاً في بنية القيادة. وبين هذين المسارين، تقف “الدعم السريع” عند منعطف حاسم، فإما أن تتحول إلى كيان سياسي – عسكري جديد بإرادة داخلية، أو تتآكل حتى الانفجار، تاركة خلفها فسيفساء من الميليشيات المتنازعة التي ستعيد تشكيل الجغرافيا السودانية على صورتها المتعبة، ولكن بملامح أكثر فوضوية.

التعليقات معطلة.