الجزء الثاني والعشرون:
في قلب الجغرافيا السياسية المضطربة، يعود العراق مجددًا إلى واجهة الصراع، لا كفاعلٍ يمتلك قراره، بل كساحةٍ تتنازعها المهمات الدولية. فمن واشنطن إلى طهران، تتقاطع الخطوط عند بغداد، حيث يطلّ المبعوث الأميركي مارك سافايا حاملاً مشروع إعادة التوازن، فيما يتحرك إسماعيل قاآني دفاعًا عن نفوذٍ يتآكل بفعل المتغيرات الإقليمية. بين هذين المسارين، يقف العراق محاصرًا بين وصايتين متقابلتين، تتحدثان باسمه أكثر مما تستمعان إليه، في مشهدٍ يعيد السؤال الأهم: هل ما زال للعراق إرادة وطنية حقيقية في تقرير مصيره؟
لم يكن العراق يومًا ساحة صراعٍ داخلي بقدر ما كان ميدانًا لتصفية الحسابات بين القوى المتنافسة على النفوذ في الإقليم. واليوم، يتجدد هذا المشهد مع ما يمكن تسميته بـ«صراع المهمتين» بين المبعوث الأميركي مارك سافايا، القادم إلى بغداد بملفٍ دبلوماسي أمني متكامل، وقائد فيلق القدس إسماعيل قاآني، الذي يحاول إنقاذ ما تبقّى من نفوذ طهران في الجغرافيا العراقية التي تتآكل يومًا بعد يوم .
أولاً: صراع المهمات لا الأشخاص
سافايا لا يتحرك بصفته مبعوثًا عابرًا، بل بوصفه ممثلًا لرؤية أميركية جديدة تحاول إعادة ضبط ميزان القوة في العراق بعد سنوات من «الإدارة المرنة» التي سمحت لإيران بترسيخ نفوذها عبر الفصائل والاقتصاد والقرار السياسي. في المقابل، يندفع قاآني لملء الفراغ الذي خلفته التصدعات الإيرانية الداخلية والانقسامات بين فصائل «الولاء» في العراق، محاولًا ترميم ما تآكل من مشروع «المحور المقاوم».
لكن كلا الطرفين لا يتحرك انطلاقًا من مصالح العراقيين أو وفقاً لإرادتهم الوطنية، بل من حسابات تتعلق بأمنهم القومي ومصالحهم الاستراتيجية. فالميدان العراقي بالنسبة لهما ليس دولة ذات سيادة، بل منطقة تماس تحدد من يملك مفتاح النفوذ في الشرق الأوسط.
ثانياً: العراق بين وصايتين متناقضتين
بين ضغوط سافايا الدبلوماسية ومساعي قاآني الميدانية، يجد العراق نفسه في موقع التابع القلق، العاجز عن صياغة موقف وطني موحّد. فكل قرار في السياسة والأمن والاقتصاد بات محكوماً بمقدار تأثير واشنطن وطهران عليه، وكأن السيادة تُقاس بمدى رضا العاصمتين لا بقرار البرلمان أو الحكومة.
هذه الثنائية خلقت فراغًا خطيرًا في مفهوم الدولة الوطنية:
فالمؤسسات تعيش حالة «توازن هش» بين الإملاءات الأميركية وتهديدات الفصائل الموالية لإيران.
والمجتمع فقد ثقته بالعملية السياسية التي باتت تدار من الخارج أكثر مما تُنتج من الداخل.
أما الحكومة، فصارت تدير أزمات لا تصنع حلولًا، وتبحث عن النجاة في المساومة لا في القرار الوطني.
ثالثاً: معركة النفوذ بوسائل جديدة
لم تعد المعركة بين واشنطن وطهران في العراق قائمة على الصدام العسكري المباشر، بل على هندسة النفوذ عبر أدوات ناعمة:
واشنطن تعتمد على النفوذ الاقتصادي والدبلوماسي والإعلامي.
وطهران تراهن على الأذرع المحلية والشبكات العقائدية والاقتصادية.
غير أن الجديد في المرحلة الحالية هو أن واشنطن قررت استعادة المبادرة بعد أن تركت إيران تتحكم في المشهد لسنوات. وهنا يظهر دور سافايا، الذي يسعى لتقويض منظومة النفوذ الإيراني من داخلها، عبر إعادة تعريف مفهوم «الشراكة» مع العراق على أساس المصالح المتبادلة لا «التبعية المتبادلة».
رابعاً: العراق يدفع ثمن الآخرين
المفارقة المؤلمة أن هذا الصراع لا يدور على أرضٍ فارغة، بل على حساب سيادة بلدٍ مثخن بالجراح. فكل موجة توتر بين واشنطن وطهران تنعكس أمنياً واقتصادياً على العراقيين، لتتحول أرض الرافدين إلى مختبرٍ دائم لتجارب النفوذ الدولي.
لقد فقد العراقيون زمام المبادرة، لأن القرار الوطني تم تفريغه من مضمونه تحت ضغط التحالفات الخارجية. وما لم تتكوّن إرادة داخلية قادرة على بناء مشروع وطني مستقل، فسيبقى العراق مرتهناً لصراعات لا يملك فيها سوى دور المتفرج على مصيره.
استعادة الوطن تبدأ من الوعي
المعركة الحقيقية ليست بين سافايا وقاآني، بل بين من يريد للعراق أن يبقى تابعاً، ومن يسعى لأن يعود سيد قراره. حين يدرك العراقيون أن السيادة لا تُستعاد بالشعارات، بل ببناء مؤسسات تملك القرار وتُحاسَب عليه، عندها فقط سيتحول الصراع من «صراع نفوذ» إلى «صراع وعي»، ومن لعبة الآخرين إلى نهضة وطنٍ يكتب تاريخه بيده لا بأيدي السفراء والقادة الغرباء .
يتبع غدا الجزء الثاني والعشرون: 11/11… إرادة العراقيين غائبة في مشهدٍ مكتوبٍ سلفاً

