المدى/ سيزر جارو
أثارت نتائج الكوتا المسيحية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة موجةً جديدة من النقاش داخل أوساط المجتمع الآشوري – المسيحي في العراق، بعد أن خسر زعيم كتلة بابليون ريان الكلداني السيطرة الكاملة على مقاعد الكوتا، التي كان يحتكرها خلال الدورات السابقة، لصالح مرشحين من خارج كتلته السياسية، حيث إنّ معظم الأصوات التي حُسبت لمرشحي الكوتا لم تصدر من أبناء المكوّن أنفسهم.
فقد أظهرت النتائج فوز كلٍّ من أسوان سالم صادق وإيفان فائق جابرو المقرّبين من كتلة بابليون، في حين ذهبت المقاعد الثلاثة الأخرى إلى مرشحين مستقلين أو مدعومين من تيارات قومية، وهم: سامي أوشانا كوركيس في دهوك، كلدو رمزي أوغنا في أربيل، وعماد يوخنا في كركوك. هذه الخريطة الجديدة أنهت عملياً هيمنة الكلداني على الكوتا المسيحية التي ظلّت لسنوات خاضعة لنفوذه السياسي والعسكري.
لكن رغم هذه التغييرات، تباينت آراء المسيحيين بين متفائل وحذر ومتشائم. فبينما يرى فريق من الناشطين والسياسيين أن خسارة ريان الكلداني تمثل “تحولاً إيجابياً” في مسار التمثيل المسيحي، وفرصة لاستعادة الصوت المستقل داخل البرلمان، يعتقد آخرون أن ما جرى لا يعدو كونه “تدويراً للنفوذ نفسه”، طالما أن قانون الكوتا الحالي ما زال يسمح بتدخل المكونات الأخرى في تحديد هوية ممثلي الأقليات.
ويؤكد مراقبون أن هذا الخلل القانوني هو جوهر الأزمة، إذ يسمح بتدخل القوى السياسية الكبرى، خصوصاً تلك التي تمتلك تشكيلات مسلحة، في توجيه أصوات التصويت الخاص والعام على حدٍّ سواء. وقد ظهرت هذه الإشكالية بوضوح خلال الاقتراع الخاص الذي خُصِّص للقوات الأمنية والبيشمركة والحشد الشعبي، حين سُجلت آلاف الأصوات لصالح مرشحين مدعومين من أطراف تملك نفوذاً خارج المكوّن الآشوري.
وقال الناشط من بغديدا رائد توما في حديث لـ(المدى): “خسارة ريان الكلداني لا تعني بالضرورة أن الكوتا عادت لأصحابها الحقيقيين. فالأصوات التي أوصلت بعض الفائزين لم تأتِ من داخل المكوّن، بل من خارجه، وهذا يجعلنا أمام نفس المشكلة القديمة بوجه جديد”. وأضاف: “القضية ليست بمَن فاز، بل بكيفية التصويت، ومن يملك القدرة على توجيه الكتلة الأكبر من الأصوات”.
من جانبه، عبّر الشاب جورج إسحاق من دهوك عن حذره قائلاً: “صحيح أن الكلداني خسر كل المقاعد تقريباً، لكننا ما زلنا أمام لعبة نفوذ أكبر من حجمنا. الديمقراطية لا تُقاس بالأسماء، بل بمدى حرية الصوت المسيحي واستقلاله عن المصالح المسلحة والسياسية”.
أما الناشطة إيفون يوخنا من أربيل، فقد أبدت تفاؤلاً حذراً، معتبرةً أن النتائج “ربما تفتح الباب أمام مرحلة أكثر توازناً”، لكنها شددت على أن “الكوتا لا يمكن أن تُصلح واقعنا ما لم تُحصر أصواتها بأبناء المكوّن، وإلا سنبقى نراوح بين نفوذ وآخر”.
وفي موقف رسمي واضح، أصدرت الحركة الديمقراطية الآشورية (زوعا) بياناً شديد اللهجة اطّلعت عليه (المدى) عبّرت فيه عن رفضها لما أفرزته صناديق التصويت الخاص، معتبرةً أن ما جرى يمثل “سطواً على إرادة المكوّن الآشوري”. وجاء في البيان:
“تابعنا نتائج التصويت الخاص التي نقلتها وسائل الإعلام، وما يهمنا هو الحجم الهائل من الأصوات التي ضُخَّت لصالح مرشحي الكوتا والتي تجاوزت خمسين ألف صوت. وقد حذرنا مراراً من أن مقاعد الكوتا كانت وما تزال مسروقة، وتم السطو عليها بطريقة لا تعبّر عن إرادة شعبنا الكلداني السرياني الآشوري.
فأي ديمقراطية تلك التي تُنتزع فيها مقاعد الأقليات بأصوات العسكر والأجهزة الأمنية، في حين لا يملك أبناء هذه الأقليات سوى بضعة مئات من المنتسبين؟
إننا نأسف بشدة لحال العملية السياسية في العراق، فما يجري بحق الأقليات ليس سوى انحدار سياسي يعكس حجم الاستلاب الذي يُمارس بحق شعبنا الآشوري من قِبَل القوى المستحوذة على السلطة والمال والقوة.”
وأضاف البيان: “نؤكد لشعبنا أن ما يجري لن يثبط من عزيمتنا، بل يزيدنا إصراراً على مواصلة النضال من أجل حقوقنا القومية العادلة، والحفاظ على إرادتنا الحرة. كما نحمّل السلطتين التشريعية والقضائية والمجتمع الدولي المسؤولية عمّا يواجهه شعبنا وبقية الأقليات من سرقة إرادتهم، وندعو إلى تعديل قانون الانتخابات بما يحصر التصويت على مقاعد الكوتا ضمن مكوناتها”. ويطالب ناشطون آشوريون ومنظمات مدنية بإعادة النظر في طريقة احتساب الأصوات الخاصة في دوائر الكوتا، أو حصرها بأبناء المكوّن نفسه، على غرار ما يجري في بعض الدول التي تعتمد نظام الحصص المضمونة للأقليات. فالمشكلة لا تتعلق فقط بعدد المقاعد، بل بشرعية من يشغلها، ومدى تمثيله الحقيقي للهوية السياسية والاجتماعية لمجتمعه.
ويخشى المسيحيون أن يترسخ هذا النمط في كل استحقاق انتخابي، ما يعني أن الكوتا، التي أُقرت أصلاً لحماية تمثيلهم السياسي، باتت وسيلة لإقصائهم وتزييف صوتهم. لذلك تتعالى الدعوات اليوم لتوحيد موقف القوى والأحزاب المسيحية في مطالبة المفوضية والأمم المتحدة بفتح تحقيق شامل في نتائج التصويت الخاص، وبالعمل على تعديل قانون الكوتا بحيث يكون التصويت فيه محصوراً بأبناء المكوّن نفسه، لضمان تمثيل حقيقي وصادق داخل العملية الديمقراطية.
ورغم التباين في المواقف بين من اعتبر خسارة الكلداني “نهاية لاحتكار طويل” ومن رأى فيها مجرد “تبديل في الوجوه”، إلا أن المشهد العام يعكس قناعة متزايدة بأن الكوتا المسيحية فقدت جوهرها الأصلي، وأن تمثيل المكوّن لا يمكن أن يكون حقيقياً إلا حين يصدر من إرادته الحرة وحدها، لا من أصوات الآخرين.

