هويدا عزت
أحيانًا لا تُطفئ الأشياء الجميلة لأنها فقدت قيمتها، بل لأن أحدهم جعلنا نراها بعيونٍ غير عيوننا، كم من شغفٍ خفت بريقه لأننا صدقنا تعليقًا عابرًا أو نظرةً ناقدة؟ كثيرًا ما نُعيد تقييم ما نحب بعيون غيرنا، فننسحب ونبتعد رغم ارتباطنا الحقيقي به، وكأننا نستبدل صوت قلوبنا بصدى الخارج.
كان كوبي المفضل قطعة فنية بحق؛ نقاء زجاجه يُشعرك بالصفاء، وألوانه المُتميزة تبعث على الراحة التي لا تجدها في أي كوب آخر، كنت أفضله اعتدت استخدامه يوميًا. حتى علق أحد الأقارب: “هو مفيش غير الكوب ده الذي تستخدمينه دائمًا ؟”، تسربت إلى داخلي مشاعر خفية من الخجل والارتباك، كأن هذا الشيء الذي أحببته لم يعد يستحق التمسك به، تركته جانبًا، ومع الأيام تراكم عليه الغبار، وخمد بريقه كما خمد شغفي الصغير به لم أعد أجد الراحة في غيره، ومع ذلك لم أعد أستخدمه. هنا فقط أدركت كم يمكن لنظرة الآخرين أو كلماتهم العابرة أن تُطفئ ما يبهجنا دون وعيٍ منهم.
وهكذا الحال في بعض بيئات العمل، يوجد دائمًا “كوب” من نوعٍ آخر أشخاص يتمتعون بقدرات مميزة وأفكار مُتجددة، يُضيئون الأماكن التي يعملون بها، إلا أنه قد يُنظر إلى هذا المُبدع على أنه تهديد لا قيمة. يُركن كما يُركن الكوب على الرف، لا لأنه لم يعد صالحًا، بل لأن أحدهم أراد تقليل لمعانه لا يُمنح الفرصة، ولا يُدعم، بل يُثقل بالأعمال أو يُبعد عن التطوير خوفًا من أن يلمع أكثر من اللازم.
جاءتني صديقة تعمل مديرة لتروي لي موقفًا من واقع بيئتها المهنية. قالت إنها كانت لديها موظفة متميزة تتولى تنفيذ المهام بكفاءة وسرعة، تجمع بين الاجتهاد وحب التطوير، وتتحلى بروح التعاون والمرونة مع زملائها. غير أن هذه الصفات التي كان يُفترض أن تكون مصدر تقديرٍ، تحولت للأسف إلى سببٍ للغيرة والحسد، بدأ بعض الزملاء يشعرون بالتهديد من تألقها، فنسجوا حولها رواياتٍ غير حقيقية، وصنعوا عنها صورةً سلبية استغلوها ببراعة لزرع الشك في نواياها أمام الإدارة.
ومع الوقت، تسللت هذه الصورة الزائفة إلى الأذهان، حتى بدأت المديرة نفسها تشعر بالحيرة بين ما تراه من أداءٍ متميز، وما تسمعه من أحاديثٍ متكررة تُشكك في نوايا الموظفة وسلوكها. تقول صديقتي: كنت أشعر في داخلي أنها إنسانة صادقة ومخلصة، لكن ضغوط الفريق وكثرة الإشاعات جعلتني مترددة في دعمها.
بمرور الأيام، تراجعت الموظفة عن مُبادراتها، وأصبحت أكثر حذرًا وأقل تفاعلًا، بعد أن كانت شعلة نشاطٍ وحماس، لم تعد تقترح أفكارًا جديدة، ولا تبادر بتطوير العمل كما اعتادت، فقد تعلمت أن التميز في بيئة غير ناضجة قد يُكلفها راحتها النفسية ومكانتها، تقول المديرة بأسف: أدركت متأخرة أنني خسرت واحدة من أفضل عناصر فريقي، ليس لأنها قصرت، بل لأننا لم نحسن حمايتها.
هؤلاء المُبدعين من الموظفين عندما لا يجدون من يحتضن مواهبهم أو يؤمن بقدرتهم، حيث التهمش، ليس لقصورها، بل لأن أحدهم رأى أن بريقها يُهدد سطوعه، ويضع على “الرف” كما يوضع ذلك الكوب الجميل الذي خمد بريقه، مع مرور الوقت، يعتاد المُبدع هذا الوضع، ويستسلم للصمت، ويكتفي بأداء الواجب دون روح أو حماس؛ يتحول من إنسانٍ صاحب فكرٍ ورأيٍ ومُبادرة، إلى مجرد أداة لتنفيذ الأوامر.
التهميش لا يقتل الشخص فورًا، لكنه يسرق منه ببطء ثقته، شغفه، واندفاعه للحياة، ومع ضغوط الحياة يرضخون للأمر الواقع، ويتحولون من مبدعين إلى منفذين، ومن أصحاب رأي إلى أداة تُستخدم فقط عند الحاجة، يُصبح الأداء روتينيًا، والإبداع حلمًا مؤجلًا، تنطفئ تلك الشعلة شيئًا فشيئًا، وحين يسألهم أحد عن طموحاتهم، لا يجدون إجابة؛ فالعمر مرّ، والبريق انطفأ، لا لضعفٍ فيهم، بل لغياب التقدير والدعم.
إن مثل هذه المواقف تُجسد بوضوح كيف يمكن أن تتحول بيئة العمل، دون وعي، إلى ساحةٍ تُعاقب فيها الكفاءة بدل أن تُكافأ. فعندما يغيب الإنصاف، ويُترك المجال للشائعات والتحزبات، تتشكل ما يُعرف بـ البيئة التنظيمية السامة؛ بيئة تُقمع فيها المُبادرات وتُكبت الطاقات، ويُقدم الولاء على الكفاءة.
إن أخطر ما في هذه البيئات ليس فقدان الأداء الفعال فحسب، بل ضياع المعنى الأعمق للعمل؛ إذ يشعر الموظف المجتهد بأن قيمته لا تُقاس بعطائه، بل بمدى انسجامه مع “الصوت الأعلى” داخل المؤسسة، وهكذا يتآكل الإبداع بصمت، ويتراجع الحماس تدريجيًا، حتى تُصبح المؤسسة غنية بالأفراد، لكنها فقيرة في الأفكار.
الإبداع ليس نادرًا، لكنه هش أمام الإهمال، فكل إنسان يحمل داخله طاقة تنتظر من يثق بها ويُعيد إشعالها، والإدارة الذكية هي التي تعرف كيف تُعيد النور إلى عيون موظفيها، فتُزيل عنهم غبار التهميش، وتُنعش حماسهم بالمشاركة والتقدير والاحتواء؛ فالإبداع لا يموت، لكنه يحتاج إلى بيئة تُنصت له وتحتضنه، لأن المؤسسات التي تصون الموهبة لا تصنع النجاح فحسب، بل تُبقيه متجددًا ومتوهجًا باستمرار.
إن المحافظة على هذه القيمة لا تقتصر على التحفيز الداخلي، بل تتطلب وعيًا تنظيميًا يُدرك أن صيانة المُبدعين تتجاوز المكافآت المادية، هي تتحقق بـحمايتهم من التهميش والغيرة التنظيمية، وبـالاعتراف العادل والواضح بجهودهم الحقيقية بعيدًا عن أي مؤثرات سلبية، إن وضع الشخص المناسب في البيئة المناسبة هو المفتاح الذي قد يُطلق فرقًا يتجاوز كل التوقعات.
إلا أنه يمكن القول، أنه مهما كان دور البيئة المحيطة بالموظف فإن مسؤولية أن تكون مبدعًا ومتحمسًا هي مسؤوليتك الشخصية وحدك؛ فالإبداع في جوهره لا يسكن المؤسسة بقدر ما يسكن الإنسان؛ قد تمنحه الإدارة المُناخ والفرصة، لكن من يُبقيه حيًا هو صاحبه، ذاك الذي يرفض أن يذوب في الروتين أو يستسلم للتكرار، وعندما تغفل المؤسسة عن قيمة المُبدعين، يظل الأمل فيمن يعرف أن الشغف لا يُعطى، بل يُستعاد بالجهد والإرادة.
ومن هنا، يأتي دورك أنت، أيها الموظف المُبدع، في أن تُدرك أن جذوة الإبداع تشتعل من الداخل، لا بإعجاب الآخرين أو رضاهم؛ فلا تسمح لكلمة عابرة أن تُطفئ شغفك، ولا لنظرة ناقدة أن تُبعدك عما تحب؛ فالأشياء التي تُشبهك تستحق أن تتمسك بها، والبريق الذي فيك لا يحتاج إذنًا من أحد ليضيء من جديد.
وإن ضاقت بك بيئة العمل يومًا أو خنقك مُناخ عمل لا يُنصف الإبداع، فتذكر قوله تعالى:
(أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) “سورة النساء: 97”.
فالهجرة ليست دائمًا انتقالًا من مكانٍ إلى آخر، بل أحيانًا عبور من ضيق التقدير إلى سعة الاعتراف، ومن بيئة تُطفئ النور إلى أخرى تُنصت، لا تدع إبداعك يموت في الظل، فالنور لا يعرف أن يختبئ طويلًا، وطبيعته أن يظهر مهما طال عليه الغياب.

