دعونا نتعلم بشكل حقيقي

1

 
 
” إن صناعة تعليم ذات جدوى يمثل رعبا حقيقيا لكافة الأنظمة السلطوية الديكتاتورية المتحالفة مع الاستعمار، والمتوافقة مع الإرهاب رغم صراعاتهم الظاهرية، لكن في الحقيقة يظل كل منهم مبررا لوجود الآخر، فلو لم يجد السلطوي إرهابا لاخترعه، فالتعليم الابتكاري الواعي المبني على التجربة والفكر الاستقصائي، سوف يهدم ثوابت شعبوية ألبسوها ثوب الوطنية الزائفة، ”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
يشكل التعليم أو التعلم أحد التحديات التي تواجه أمتنا العربية، فالصفات التي سبق وقد تحدثنا عنها مثل العنصرية وعدم تقبل الآخر، وغياب القدرة الابتكارية التي تستجلب التقنية، ورفض أي تطور مجتمعي، ورفع شعارات شعبوية بالية، ما هي إلا نتيجة غياب للتعليم الإبداعي القائم على الملاحظة والاستقصاء، الذي يبني منظومة من القيم الأساسية الثقافية التي تحقق التقدم والنمو المستدام المطلوب اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، فالفرق بين مستهلكي التقنية ومنتجيها، عقول تنقد الحاضر، وتبحث عن حلول لتحديات آنية بفكر ينطلق نحو المستقبل، عقول تدربت منذ الصغر على الملاحظة والاستقصاء، ترفض القوالب وضيقها، وتنطلق نحو رحابة المستقبل، بعقول منيرة ومستنيرة، بهواجس مختلفة عن العقول المقولبة التي ترزح محلها تردد كالببغاوات ما يلقن لها، هواجس تنظر للمستقبل بعين متفحصة تبحث فيه عن مكان لإبداعاتها.
نعم فواقع تعليمنا العربي في العموم، مرتبط بواقع سياسي يفرضه الملقن سواء كانت دولا تبحث عن استعمار العقول، أو إرهابا يعود بنا بأفكار تجاوزها الزمن، أو أنظمة ديكتاتورية تريد أن ترسخ كراسيها، وتتعامل مع مواطنيها كصبية لا يبلغون الرشاد أبدا.
ولعل هذا التكالب على هذه المنطقة التعسة لم يكن ذا جدوى لو كانت تمتلك عقولا محلقة بالإبداع تجادل لاستولاد الحقائق وتقييم المراحل، لا تجادل بأيدولوجية مسبقة ، ودفاع عن أديان لم يعرفوا بعد حقائقها أو ما تدعوا إليه، فأبناء دين اقرأ، لا يقرأون إلا ما يلقنه لهم المسيطر أيا كان، وأيا كان من وراءه، وحتى الحالمون بالوحدة العربية لا يزالون أسرى قوالب قديمة للوحدة، وشعارات تجاوزها التطور المجتمعي الذي شهدته المنطقة والعالم، دون بذل جهد لقراءة حقيقية ناقدة للماضي، وتشريح لما شهده الحاضر، بهدف بناء أنظمة سياسية واجتماعية تحتوي الأفكار الوحدوية، وتستولد منها أسس تصلح لبناء راسخ يستمر في المستقبل، ويتطور مع تطوراته، ويسمح للأجيال القادمة اختيار نموذجهم الوحدوي.
إن صناعة تعليم ذات جدوى يمثل رعبا حقيقيا لكافة الأنظمة السلطوية الديكتاتورية المتحالفة مع الاستعمار، والمتوافقة مع الإرهاب رغم صراعاتهم الظاهرية، لكن في الحقيقة يظل كل منهم مبررا لوجود الآخر، فلو لم يجد السلطوي إرهابا لاخترعه، فالتعليم الابتكاري الواعي المبني على التجربة والفكر الاستقصائي، سوف يهدم ثوابت شعبوية ألبسوها ثوب الوطنية الزائفة، وسيخلق نوعا من التفكير النقدي الفردي، الذي سيقضي تأكيدا على ما صنعوه من فكر جمعي للأمم يسوقوها كالقطيع، وسيرفض هذا النوع من التفكير، أي ثوابت تنافي العقل وتقف عقبة كؤود أمام التطور المجتمعي، كما سيصنع هذا النوع من التفكير حلقة حماية ثقافية ضد الافكار الظلامية، تفندها وتنقدها، وتنظر لحقوق الإنسان الطبيعية كأولوية تسبق الأحاديث عن الاستباحة بدوافع مزيفة.
ولن نجد بالتأكيد أذرع للمستعمر في ظل وعي حقيقي بالثوابت والحقائق الوطنية، فبناء الفرد المثقف المتعلم تعليميا حقيقيا عصريا، يتنافى معه التبعية لمستعمر حتى وإن كان يحمل نفس الأفكار التنموية في بلاده، فالعقل النقدي وحده هو القادر على التمييز والتمايز بين العقول المسلوبة بفعل التلقين، ولعل النموذجين الياباني والالماني هو أصدق تعبير على ما يمكن ان يصنعه التعليم النقدي بالأمم، فانهيارات وانكسارات هاتين الدولتين، كانا ممكن أن يقودهما نحو العالم الثالث، لكن بفضل ما تملكانه تلك الدولتين، من عقول صنعت الفارق، الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لهما رغم الانكسارات التي مرا بها بفضل الديكتاتورية التي رزحا فيها قبيل الانطلاقة الكبرى، فهما نموذجان فريدان يؤكدان بناء الفرد المتعلم القادر على صناعة الحاضر والمستقبل، هو السبيل الوحيد لحماية وصيانة حقوق ومكتسبات المجتمع الاقتصادية والسياسية، هو الحاضر بمنظومته الثقافية التي تعبر عن قيم انسانية راسخة بالبحث والتعلم، تشكل هالة من الحماية لهذا الفرد وما يدور فيه من منظومة اجتماعية، تمتلك خصوصية علمية وبحثية، تبحر في بناء المستقبل وتستنهض مقوماته، وتعلي من شأن الفرد وحقوقه الانسانية المشروعة، دون تبريرات تداري قمعها خلف شعارات تقضي على مقوماته الإبداعية.
 
إبراهيم بدوي

التعليقات معطلة.