تحولات تكشف حدود الرأسمالية

2

إبراهيم بدوي

عندما تحدَّثنا قَبل أكثر من شهر في مقال سابق عن مؤشِّرات الهزيمة القادمة للرأسماليَّة المتوحِّشة، واستندنا إلى موجة الغضب العمَّالي الَّتي ظهرت بوضوح في عيد العمَّال الأميركي، الَّذي وافق أول يوم اثنين من شهر سبتمبر، وقُلنا إنَّ العالم يقف أمام لحظة رفض متصاعدة لهيمنة الشركات العملاقة والمليارديرات على مفاصل الاقتصاد… لم يكُنْ ما طرحناه آنذاك رؤية تحليليَّة لحدَثٍ أميركي عابر، بقدر ما كان توقعًا مبكرًا لتحوُّل في المزاج الأميركي نفسه، تحوُّل كنَّا نعلِّق عليه آمالًا بأن يُشكِّل نموذجًا من الدَّولة النموذج، يُعِيد تشكيل عالم أرهقته الرأسماليَّة المتوحِّشة، وأثَّرتِ العولمة المزعومة والاقتصاد الحُر على قِيَمه، ودفعته الأفكار المنفلتة إلى حافَّة الانفجار الاجتماعي، حتَّى أصبح أكثر من نصف سكَّانه يعيشون على خطِّ الفقر، فيما يصارع رُبعهم فقرًا مدقعًا لا يترك لهم سوى البقاء على هامش الحياة، مع نقص شديد من الاحتياجات الأساسيَّة من مأكل وملبس وغيرها.

ومع مرور الأسابيع التَّالية لهذا الرصد، ومع فوز زهران ممداني، اتَّضح أنَّ المؤشِّرات الَّتي ظهرت لم تكُن ارتدادات اقتصاديَّة فقط، لكنَّها بداية لتحوُّل اجتماعي واسع يتجاوز الولايات المتحدة، لِيصلَ إلى دول عديدة تواجه الأسئلة ذاتها حَوْلَ مصير النموذج الاقتصادي الَّذي فُرض على العالم، وخلق مأساة حقيقيَّة، ثروة هائلة تكدَّست في يد فئة صغيرة، وفقرًا متسعًا لا يجد تفسيرًا مقنعًا، ونقاشات داخل المُدن الكبرى، تحوَّلت إلى مطالبة واضحة بإعادة تعريف دَوْر الدَّولة والحدِّ من النفوذ المالي، الَّذي تغلغل في السياسة والإعلام وأثَّر على تفاصيل الحياة اليوميَّة، ويتنامى شعور جمعي بأنَّ النظام الَّذي قدّم طويلًا بصفته عنوانًا للرخاء فقَدَ توازنه، وصار يستهلك المُجتمعات بدلًا من خدمتها، ويدفع الطبقات العاملة إلى تحمُّل الثَّمن الأكبر. وفاق الأميركيون من نموذج المقامرة وحلم الثراء السريع، واكتشفوا أنَّ (1٪) يمسكون بمفاتيح هذا الحلم، وأنَّ فكرة الصعود الفردي لم تكُنْ أكثر من واجهة تخفي واقعًا يمنح الفرص لفئة محدودة، ويترك الأغلبيَّة في مساحة انتظار قاسية. هناك تقارير جديدة كشفت تضاعف أرباح الشركات التكنولوجيَّة بنِسَب تفوق اقتصادات دول كاملة، بَيْنَما بقيت أُجور العمَّال في مستويات لا تعكس الجهد ولا الإنتاج، ما جعل التناقض داخل النظام مكشوفًا على نَحْوٍ لا يُمكِن تجاهله.

وجاءت حملة ممداني لِتُلقي الحجر في المياه الراكدة، وتكشف تناقضًا واضحًا داخل السياسة الأميركيَّة، فالأفكار الَّتي تقدَّم بها كانت تعامل سابقًا كجريمة، أو على الأقل كتجارب جانبيَّة لا يلتفت لها أحد، بَيْنَما أصبحت اليوم قوَّة انتخابيَّة حقيقيَّة استطاعت أن تتقدم من الجولة الأولى بفارق كبير وسحق واضح لمنافسيه. والأهم أنَّ صعوده اعتمد خطابًا يُعِيد الدَّولة إلى مركز المشهد بعد سنوات من ترك الساحة للشركات العملاقة، وركَّز على حماية الفئات الضعيفة وتوسيع الملكيَّة العامَّة، وفرض ضرائب عادلة تُعِيد التوازن الاجتماعي. لقد ظهر مثل هذا داخل المُدن الكبرى، وبات تأثير هذا الخطاب بوضوح، إذ وجد العامل والمهاجر وصاحب الدخل المحدود مساحة للتأثير عَبْرَ التمويل الشَّعبي الواسع، الَّذي منح الحملة قوَّة لا تملكها الحملات التقليديَّة، وعاد النقاش القديم حَوْلَ الدَّولة النموذج ليظهر من جديد، بعدما أدرك كثيرون أنَّ التجربة الَّتي تمَّ تجاهلها سابقًا أصبحت خيارًا واقعيًّا يُعبِّر عن تحوُّل اجتماعي لا يُمكِن إنكاره.

وتتحول هذه التحوُّلات إلى مشهد أوسع حين نخرج من الإطار الأميركي إلى السياق العالمي؛ لأنَّ ما يجري داخل المُدن الأميركيَّة يُشبه ما يحدُث في أوروبا وأميركا اللاتينيَّة، ودول فقَدَتْ ثقتها في النموذج الاقتصادي القديم.. هناك موجات من الغضب في فرنسا، وصعود اليسار في البرازيل، وتحوُّل النقاشات في ألمانيا وبريطانيا نَحْوَ دَوْر أكبر للدَّولة، كُلُّها إشارات على أنَّ العالم يستعدُّ لمرحلة جديدة تُعِيد صياغة العلاقة بَيْنَ المُجتمع والسوق. وتتراكم التقارير الَّتي تكشف أنَّ أكثر من أربعة مليارات إنسان يعيشون على حدود الفقر، وأنَّ الثروة العالميَّة تتكدس في يد أقليَّة لا تتجاوز واحد بالمئة، وهذا الواقع يضع النظام الاقتصادي الدولي أمام سؤال وجودي حَوْلَ قدرته على الاستمرار بالقواعد نفسها، وتتحرك دول الشمال الأوروبي كنموذج قادر على الجمع بَيْنَ النُّمو والعدالة، ونجحت في تحويل تدخُّل الدَّولة إلى أداة لحماية المُجتمع، وبدأ هذا المسار يكتسب حضورًا واسعًا داخل النقاش العالمي، بعد أن اكتشف كثيرون أنَّ الرهان على السوق وحده لم يَعُدْ قادرًا على إنتاج حياة مستقرة ولا طبقة وسطى متماسكة.

إبراهيم بدوي

التعليقات معطلة.