القضية الفلسطينية مسؤولة عن حالة «استقطاب رباعي»، إذا جاز التعبير. وهو استقطاب تتقاطع فيه الخطوط الأيديولوجية والجيلية والنخبوية. وما أقصده بالاستقطاب الرباعي هو أن الولايات المتحدة لم تعد تعاني الاستقطاب التقليدي الموجود منذ منتصف التسعينيات بين المحافظين والليبراليين، وإنما صارت تعيش معه استقطاباً إضافياً داخل كل من هذين التيارين. وهو نشأ منذ فترة وانفجر في العلن مع حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة.
فليس خافياً أن الحزب الديمقراطي يعاني منذ فترة من فجوة متنامية بين قاعدته الجماهيرية ونخبة الحزب، إذ إن القاعدة أكثر تقدمية في السياسة الداخلية والخارجية، بما فيها دعم الفلسطينيين. لكن النظام الانتخابي البائس المتبع بأمريكا، فضلاً عن النفوذ الهائل للمال في العملية الانتخابية يشكلان حائطاً ضد الإطاحة بتلك النخبة، حتى الآن على الأقل.
وما شهدته انتخابات 2024 الرئاسية حول فلسطين كان نتيجة تراكم بطيء فجرته حرب الإبادة على نحو لم يعد بإمكان الحزب تجاهله. والانقسام داخل الحزب ليس فقط بين النخبة والقاعدة الجماهيرية وإنما بين جناحي النخبة، الليبرالي والتقدمي، من ناحية، وبين الشباب والأجيال الأكبر من ناحية ثانية. والاستقطاب المتعدد ذاته تشهده بالمناسبة قوى الحزب التقليدية نفسها. فاتحادات العمال، مثلاً، التي انخرطت في دعم إسرائيل حتى قبل 1948، صارت تواجه ضغوطاً، منذ الانتفاضة الثانية، من أعداد متزايدة من العمال تناهض مواقف القيادات وتضغط اليوم أكثر من زمن الإبادة.
والمفارقة أن نتانياهو لعب دوراً لا يمكن إنكاره في خسارة إسرائيل لناخبي الحزب الديمقراطي. فلوبي إسرائيل حرص منذ نشأته على أن يكون دعمها مسألة عابرة للحزبين لئلا يتأثر الموقف الأمريكي بتولي أحدهما أو الآخر مقاعد الحكم.
ورغم أن منظمات اللوبي الأكثر تأثيراً صارت نفسها أكثر يمينية بكثير من عموم اليهود الأمريكيين فإنها ظلت حريصة على الدعم المالي والانتخابي لمرشحي الحزبين. لكن صلف نتانياهو هيأ له أن بإمكانه أن يراهن على أحد الحزبين، بينما يستمر الدعم نفسه الذي طالما حصلت عليه إسرائيل. فكان، مثلاً، أول مسؤول إسرائيلي يهاجم رئيساً ديمقراطياً في الحكم من على منصة الكونغرس ذي الأغلبية من الجمهوريين وقتها.
ولم يخف أيضاً، أثناء الانتخابات، تفضيله لوصول الجمهوريين لسدة الحكم في الرئاسة والكونغرس! بعبارة أخرى راهن نتانياهو على الحزب الجمهوري، وبنى رهانه على نفوذ نخبة المحافظين الجدد، والقاعدة الجماهيرية للتيار المسيحي الأصولي الذي يرى في قوة إسرائيل وسحقها لأعدائها تحقيقاً لنبوءة عودة السيد المسيح.
لكن حرب الإبادة أحدثت تحولات مهمة. فرغم دعم ترامب لإسرائيل، فإن تيار «أمريكا أولاً» الذي أتى به للحكم لم يعد يرى في دعم إسرائيل «مصلحة أمريكية». والإبادة فتحت أعين شباب هذا التيار على حجم الإنفاق الأمريكي المذهل لدعم إسرائيل طوال الحرب. وانتبه الشباب لمستوى معيشة الإسرائيليين والخدمات المتوفرة لهم والمحروم منها جيلهم في أمريكا نفسها.
وأثبت أحدث استطلاعات الرأي أن 50% من الجمهوريين باتوا ينظرون لإسرائيل نظرة سلبية، دون أن يعني ذلك بالمناسبة دعمهم للفلسطينيين. أكثر من ذلك، فما رآه التيار الأصولي المسيحي من مذابح في غزة بل وهدم الكنائس واضطهاد المسيحيين الفلسطينيين مثلهم مثل المسلمين أدى لشكوك عميقة لدى قطاع معتبر داخله تجاه إسرائيل، بل راح قطاع معتبر منه يبحث في النصوص والتفسيرات الدينية عما إذا كانت إسرائيل الحالية هي «إسرائيل» المذكورة في الكتاب المقدس، فصار أكثر انفتاحاً على الرؤى اللاهوتية الأخرى.
باختصار، دعم أمريكا لإسرائيل مستقبلاً بات لأول مرة على المحك، ومفتوحاً على كل الاحتمالات!

