كومبو من اليمين صدام حسين وناظم كزار (مواقع التواصل الاجتماعي)
محمد شعبان أيوب
عاش العراق أحقابا متقلبة منذ الاحتلال البريطاني مرورا بالانقلاب على الملكية وأحداثها المأساوية ونهاية بأزمنة البعث صعودا وهبوطا وصعودا حتى بلوغ صدام حسين نقطة السيطرة المطلقة على البلاد.
وفي كل تلك الأحداث، برزت شخصيات، واختفت أخرى، كان بعضهم من أعداء الأنظمة الجديدة، وبعضهم من الأصدقاء ثم تمت التضحية بهم لأسباب تتعلق بالسلطة؛ إذ “الملك عقيم” كما كانت تقول العرب.
وبعضهم أدرك هذا المفهوم مبكرا فحاول أن يتخلص من مناوئيه قبل أن يتخلصوا منه، وبرز منهم ناظم كزار الذي لو ساعدته الأقدار لكان على رأس العراق يحكمها كما حكمها صدام! فمن ناظم كزار؟ وكيف كانت بدايته ثم نهايته؟
سنوات المحن
وُلد ناظم كزار في بيئة عراقية متقلبة جمعت بين الانضباط العسكري والتقاليد الاجتماعية المحافظة، فانعكست على شخصيته ملامح الصرامة والطموح المبكر.
وقد بدأ حياته الدراسية بتفوق على الرغم من فقر أسرته، واضطر إلى العمل مبكرا لمساعدتها، فاحتكّ بطبقات العمال وتعرّف إلى النشاط السياسي المتصاعد آنذاك، ومع تحولات العراق بعد سقوط الملكية عام 1958 اتجه من مقاعد الدراسة إلى العمل الحزبي السري، ليبدأ مسارا صاخبا بين التعليم والسجن والتنظيم.
تميّز في دراسته بانضباطه ودقته وميوله التنظيمية، لكن ظروف أسرته الاقتصادية المتواضعة أجبرته على أن يتحمل مسؤولية الإعالة في سن مبكرة، فقد عمل خلال تلك الفترة مراقبا على خط الإنتاج في أحد المصانع الصغيرة.
وقرّبته هذه التجربة من طبقة العمال الذين كان لهم حضور مؤثر في الحياة السياسية العراقية في تلك السنوات، خصوصا في ظل تصاعد النشاط الحزبي اليساري والقومي في المصانع والدوائر العامة، وكان احتكاكه بهذه الطبقات عاملا مهما في صياغة وعيه الاجتماعي والسياسي لاحقا.
وكما يرصد شامل عبد القادر في كتابه “ناظم كزار سيرة أقوى مدير أمن عام”، فقد أنهى كزار في عام 1958 دراسته الثانوية بمعدل مرتفع أهّله للقبول في كلية الطب بجامعة بغداد، غير أن سنوات دراسته تلك شهدت تحولات فكرية وسياسية حادة في العراق مع سقوط النظام الملكي في العام نفسه، وهذا سيقوده لاحقا إلى طريق مختلف تماما عن المسار الأكاديمي الذي بدأه، نحو عالم ملتبس بين السلطة والأمن والسياسة.
إعلان
لم تدم تجربة ناظم كزار الأكاديمية في كلية الطب طويلا، إذ وجد نفسه بعد عام واحد من التحاقه بها في مواجهة مباشرة مع النظام الجمهوري الجديد الذي تشكل عقب سقوط الملكية عام 1958.
ناظم كزار – داخلية بالفياس الصغير فقط
ناظم كزار (مواقع التواصل)
كان هذا النظام بقيادة عبد الكريم قاسم يسعى إلى تفكيك البُنى السياسية القديمة وإقصاء التيارات القومية، وعلى رأسها حزب البعث العربي الاشتراكي الذي تحالف معه سابقا، إذ رأى فيه تهديدا لمشروعه الوطني ذي الطابع الفردي والميل اليساري.
وفي خضم الصراع بين قاسم والبعثيين، تعرّض كزار إلى الملاحقة والفصل من الجامعة بعد اتهامه بالانتماء إلى الحزب والمشاركة في نشاطاته السرّية المعارضة للنظام، وهو ما مثّل أول صدام مباشر بينه وبين السلطة الجديدة التي أرست أُسس دولة أمنية.
وتذكر بعض الروايات العراقية عن بدايات ناظم كزار أنه بعد فصله من كلية الطب حاول استكمال دراسته في كلية الهندسة بجامعة بغداد، لكن نشاطه الحزبي البعثي المبكر جعله عرضة للفصل مرة أخرى، فانتقل إلى معهد الهندسة الصناعي العالي الذي أنهى فيه دراسته لاحقا.
وكانت تلك الفترة بمثابة استراحة أكاديمية قصيرة وسط زخم التحولات السياسية، إذ استمر على تواصله مع رفاقه البعثيين في السر، حتى تخرّج في أعقاب انقلاب نوفمبر/تشرين الثاني 1963 الذي أطاح بحكم عبد الكريم قاسم وأعاد البعثيين إلى المشهد، قبل أن تنقلب عليهم الموازين من جديد في صراعات داخلية متسارعة بين الرفاق القدامى.
وتتفق روايات وشهادات عراقية، منها دراسة الباحث سيّار الجميل بعنوان “ناظم كزار: تاريخ خطير” أن ناظم كزار اعتُقل بعد تفكك التحالف بين البعث والرئيس عبد السلام عارف نحو عام 1964، وحُكم عليه بالسجن مدة قصيرة في البداية، لكن العقوبة تضاعفت إلى 10 سنوات بعدما اعتدى على قاضي التحقيق أثناء استجوابه.
وتشير هذه الروايات إلى أنه نُقل بين سجون السليمانية والموصل والفضيلية، حيث أمضى سنوات قاسية، إلى أن أُفرج عنه في عهد الرئيس عبد الرحمن عارف ضمن سياسة العفو عن المعتقلين السياسيين بعد وساطة أحمد حسن البكر الذي سيصبح رئيسا عقب انقلاب 1968.
من مواقع التواصل الاجتماعي – الى اليمين عبد الكريم قاسم وإلى اليسار عبد السلام عارف
عبد الكريم قاسم (يمين) وعبد السلام عارف (مواقع التواصل)
الصعود إلى القمة
وعقب انقلاب 17 تموز/يوليو 1968، وهو الانقلاب الذي أعاد حزب البعث إلى السلطة بشكل نهائي، خاصة الفريق الموالي له كزار وعلى رأسه أحمد حسن البكر وصدام حسين، وجد نفسه في موقع متقدم داخل الجهاز الحزبي حيث بدأ يلفت الأنظار إليه بصرامته وبقدرته على السيطرة والانضباط التنظيمي.
وهذا ما جعله أحد الأسماء التي ستُستدعى لاحقا لتتولى مسؤوليات أكبر في أجهزة الأمن والمخابرات، ومن هذه المرحلة بالذات بدأ صعوده الحاد نحو قمّة هرم الدولة الأمنية التي ستغيّر مسار حياته ومصيره معا.
وكما يذكر تشارلز تريب في كتابه “صفحات من تاريخ العراق المعاصر”، فقد أولت الحكومة العراقية التي أنشأها حزب البعث بعد انقلاب 68 عناية كبيرة لإعادة ترتيب مؤسساتها الداخلية، وقررت إنشاء جهاز أمني يتولى حماية الدولة ومؤسساتها.
وأشرف صدام حسين نائب رئيس الجمهورية على هذا الجهاز، ومع الوقت لم تعد هناك جهة أمنية واحدة بل تعددت الأجهزة وتنوعت اختصاصاتها، فظهر “جهاز الأمن الخاص” التابع للحزب، و”جهاز الأمن الرئاسي”، إضافةً إلى “جهاز أمن الدولة”.

