عقود من التضارب تنتهي!
\
المدى / يمان الحسناوي
تكشف الأرقام الرسمية والوثائق الحكومية، إلى جانب الروايات التاريخية والتقديرات التي تناقلتها المؤسسات الإعلامية والسياسية على مدى عقدين، حالةً من التضارب الواضح بشأن العدد الحقيقي لسكان مدينة الصدر، إحدى أكبر وأقدم التجمعات السكانية في العاصمة بغداد وأكثرها اكتظاظًا.
فبينما ترسخ في الوعي العام أن المدينة تضم أكثر من ثلاثة ملايين نسمة، تُظهر البيانات الدقيقة التي كشفت عنها وزارة التخطيط بعد أول تعداد شامل منذ 37 عامًا أن هذه التقديرات الشائعة لا تستند إلى أساس علمي، وأن الرقم الحقيقي أقل بكثير مما أُشيع.
خلفية تاريخية
منذ تأسيس مدينة الصدر، التي تغيرت تسمياتها بين مدينة الثورة وحي الرافدين ومدينة صدام قبل اعتماد اسمها الحالي، كانت هذه المنطقة تعبيرًا اجتماعيًا عن موجات الفقر والهجرة الداخلية التي تزايدت منذ خمسينيات القرن الماضي.
فقد صُممت على يد نزيهة الدليمي، وزيرة البلديات في حكومة عبد الكريم قاسم، كمشروع حضري يستوعب العشوائيات والمناطق الفقيرة المحيطة ببغداد.
وبعد عام 2003، ومع تفكك مؤسسات الدولة وارتفاع معدلات البطالة وتوسع البناء غير المنظم، شهدت المدينة تضخمًا عمرانيًا غير مسبوق. فقد تحول الكثير من المنازل إلى وحدتين أو أكثر، وارتفع عدد الوحدات السكنية إلى قرابة 100 ألف وحدة موزعة على 80 قطاعًا متقاربَ المساحة.
تضارب الأرقام يتواصل!
هذا التوسع العشوائي، إلى جانب السمعة الراسخة للمدينة كأحد أكثر المناطق اكتظاظًا بالسكان، أسهما في ترسيخ الانطباع بأن عدد سكانها لا يقل عن ثلاثة ملايين.
وفي عام 2023، ذكرت لجنة الخدمات والإعمار النيابية أن عدد سكان مدينة الصدر يقترب من ثلاثة ملايين، أي نحو ثلث سكان بغداد. كما ساهمت تصريحات رسمية أخرى في تعزيز هذا التصور؛ إذ تحدث المستشار المالي لرئيس الوزراء عن أن سكان العاصمة يبلغون نحو تسعة ملايين، بينما أشار محافظ بغداد السابق عبد المطلب العلوي لاحقًا إلى أن العدد قد يقترب من 11.5 مليون نسمة. هذه التقديرات المتباينة سمحت بمساحة واسعة للغموض وتضخيم الرقم المنسوب للمدينة.
التعداد يكشف الحقيقة!
واجهت كل هذه الروايات اختبارًا حاسمًا مع إعلان نتائج التعداد العام للسكان الذي أجرته وزارة التخطيط باستخدام آليات حديثة ووسائل رقمية دقيقة. فقد أكد التعداد أن عدد سكان العراق بلغ 46.1 مليون نسمة. وأظهرت النتائج النهائية لسكان بغداد أن إجمالي سكان العاصمة بلغ 9,780,429 نسمة موزعين على 15 قضاءً ومنطقةٍ إدارية.
وبحسب بيانات التعداد، جاء قضاء الكرخ في المرتبة الأولى بنسبة 21.22% وبعدد تجاوز 2.07 مليون نسمة، تلاه قضاء الرصافة بنسبة 18.41% وبعدد بلغ 1.8 مليون نسمة. وجاءت الأعظمية ثالثًا بعدد سكان بلغ 1,204,579 نسمة بنسبة 12.32%، فيما سجل قضاء المدائن 7.02% وبعدد بلغ 687,060 نسمة.
كما بينت النتائج أن مناطق سما الكاظمية والمحمودية والصدر الأولى تشكل كتلًا سكانية بارزة تتراوح نسبها بين 5.6% و6.5%، بينما بلغت نسب سكان الزوراء وأبو غريب والصدر الثانية ما بين 3.6% و4.8%. أما المناطق الأقل كثافة فهي الزهور والكاظمية وفضاء الكاظمية والطارمية بنسب تتراوح بين 1.64% و2.56%، فيما حلت الراشدية بالمرتبة الأخيرة بنسبة 0.75% فقط، بعدد بلغ 73,347 نسمة.
الحجم الحقيقي لمدينة الصدر
وأظهرت بيانات التعداد أن سكان مدينة الصدر يبلغون نحو 1.8 مليون نسمة فقط.
ويمثل هذا الرقم أول قياس دقيق منذ عقود، ويقوض الخطاب الإعلامي والسياسي الذي اعتاد الحديث عن ثلاثة ملايين نسمة وأكثر، والذي ترسخ كـ”حقيقة عامة” رغم غياب أي إسناد علمي. وفي حال إضافة منطقتي الصدر الأولى، التي يبلغ عدد سكانها 548,711 نسمة، والصدر الثانية البالغ سكانها 360,648 نسمة، إلى النطاق الإداري لمدينة الصدر التي حدد عدد سكانها بنحو 1.8 مليون نسمة، فإن إجمالي عدد السكان سيبلغ 2,709,359 نسمة. ويمثل هذا الرقم ما نسبته نحو 27.7% من إجمالي سكان العاصمة بغداد، بحسب نتائج التعداد الرسمي. وبذلك تتضح الصورة الرقمية النهائية للمدينة بوصفها إحدى أكثر المناطق اكتظاظًا في البلاد، لكنها لا تقترب من الأرقام المتداولة سابقًا التي ضاعفت حجمها لسنوات طويلة دون أي سند علمي.
وبذلك تتضح الصورة الرقمية الدقيقة للمدينة بوصفها إحدى أكثر المناطق كثافة في البلاد، لكنها لا تقترب من الأرقام المتداولة سابقًا التي ضاعفت حجمها لسنوات طويلة دون سند علمي. تظهر وثائق تعداد عام 1997 أن سكان بغداد بأكملها كانوا 5.4 ملايين نسمة، بينهم أقل من مليون في مدينة الصدر.
ومع أن تضاعف العدد بعد 2003 أمر طبيعي في ظل الانفجار السكاني، إلا أن الرقم “ثلاثة ملايين” الذي تداوله الإعلام والسياسيون بقي ثابتًا دون مراجعة أو تدقيق حتى صدور نتائج التعداد الأخير.
مدينة شديدة الكثافة… لكنها ليست ثلاثة ملايين
بمساحة تبلغ 31.5 كيلومتر مربع وكثافة تقارب 74 ألف نسمة لكل كيلومتر مربع، تعد مدينة الصدر من أعلى المناطق كثافة سكانية في العالم. وقد أسهمت هشاشة الواقع الاقتصادي، واعتماد السكان على الأعمال الحرة والوظائف الحكومية المتدنية، إضافة إلى تراجع التعليم بسبب الحصار في التسعينيات، في تكوين صورة ذهنية عن مدينة “تفيض بالبشر”. كما ساهم دورها الاجتماعي خلال الحرب على تنظيم داعش، وتحولها إلى مركز قوة بشرية لفصائل من الحشد الشعبي، في تضخيم التصورات حول حجمها السكاني. لكن التعداد الرسمي وضع حدًا لهذه التصورات، مؤكدًا أن الرقم الأدق هو 1.8 مليون نسمة فقط، وليس ثلاثة ملايين. وتكشف الفجوة بين الواقع الإحصائي والخطاب المتداول أهمية الاعتماد على البيانات الرسمية، وأهمية التعداد السكاني الأخير الذي أعاد تصحيح ميزان الفهم العام. فمدينة الصدر، رغم ضخامتها الاجتماعية ورمزيتها السياسية واكتظاظها الشديد، لا تضم أكثر من 1.8 مليون نسمة. وما كان يقدم لسنوات على أنه حقيقة مطلقة، أثبتت الأرقام أنه مجرد تقدير مبالغ فيه صمد طويلًا لغياب الأدوات العلمية لا لوجوده الفعلي على الأرض.

