إبراهيم بدوي
برغم أنَّ معرفتي بالعلوم الكونيَّة محدودة جدًّا، تكاد تكُونُ نقطة ضوء عابرة في فضاء واسع، توقفتُ طويلًا أمام حدَث علمي فريد لا يُشبه ما نسمعه كُلَّ يوم. فقد سجلت المراصد الشمسيَّة انفجارًا ضخمًا على سطح الشمس، أطلق كميَّة هائلة من الجسيمات المشحونة المعروفة بالبلازما من الطبقة الخارجيَّة للنَّجم الَّذي يمدُّ كوكبنا بالدفء والضوء، لِتتشكلَ سحابة جبَّارة تتحرك نَحْوَ الأرض، وتصل إلى غلافها المغناطيسي، فتولّد ما يُسمِّيه العلماء بعاصفة الجهد المغناطيسي، أعترف أنَّني أجد صعوبة في فَهْمِ هذه الظواهر، فما بالك بدراستها أو معرفة أسرارها، لكن ما جذب انتباهي حقًّا لم يكُنْ تفاصيل الفيزياء، وإنَّما ما قد تتركه هذه الظاهرة على عالم نعيش فيه بمنتهى الاعتماديَّة على التكنولوجيا، فالوكالة الأميركيَّة NOAA أصدرت تحذيرًا من عاصفة قويَّة من فئة G3، وهي درجة لا تهدِّد البشر بشكلٍ مباشر، لكنَّها قادرة على إرباك نُظُم اتصالات كاملة، وإحداث تشويش على الكهرباء وGPS وموجات الراديو، وصولًا لفكرة تمدّد الغلاف الجوِّي بما يُسبب احتكاكًا أكبر بالأقمار الصناعيَّة، وهذه التفاصيل فتحت أمامي سؤالًا بسيطًا، رُبَّما يراه البعض ساذجًا، لكنَّه ظل يلحُّ عليَّ طوال اليوم: هل نحن جاهزون حقًّا لأن نعيش حتَّى يومين فقط بلا الإنترنت، بلا خرائط، بلا اتصالات، بلا الطاقة الَّتي تسند عالمنا الرقمي؟
هذا الحدث الَّذي قد يراه البعض بلا أهميَّة كافية أثار داخلي طرحًا فلسفيًّا حَوْلَ اعتماد الإنسان الحديث على ما ابتكره من تقنيَّة، حتَّى أصبحت حياته كُلُّها معلَّقة بخيوط إلكترونيَّة لا يراها، وجدتُني أراجع شكل الحياة الَّتي صنعناها لأنفسنا، حياة تقوم على شبكة معقَّدة من الإشارات والبيانات أكثر ما تقوم على أبسط الغرائز الَّتي عاش بها البشر لآلاف السنين، يكفي أن تهتزَّ الأقمار في مدارها، أو يتباطأ إرسال جهاز صغير في محطَّة أرضيَّة، كَيْ تتعطل حركة الطيران، وتضطرب سفن في وسط المحيط، ويتحول الهاتف الَّذي نحمله بثقة إلى قطعة لا تنفع في شيء.. ومع كُلِّ ظاهرة شمسيَّة تزداد حدَّتها، يتردد سؤال أشد قسوة: هل نملك القدرة على العودة إلى ما كنَّا عليه لو تعرض العالم لاضطراب أطول؟ وكيف سنتعامل مع محطَّات الطاقة النوويَّة والمفاعلات الحسَّاسة لو تعطلت أنظمتها الإلكترونيَّة لحظات فقط؟ هنا يتسلل إلى الذهن اسم التقنيَّة الَّتي يخشاها العلماء ويتخوف بعضهم من أن تتحول إلى سلاح في يد دول كبرى، تقنيَّة النبضة الكهرومغناطيسيَّة (EMP)، الَّتي قد تعطل التكنولوجيا في مساحة شاسعة خلال جزء من الثانية.
اسمحوا لي أن أذهب بخيالي إلى أبعد نقطة، وأن أضع تصورًا هيلوديًّا لنهاية مفاجئة لكُلِّ ما اعتدناه من أدوات وتقنيَّات، تصورًا يختفي فيه الضوء البارد للشاشات، وتتوقف فيه الإشارات الَّتي تربط المُدن والبحار والسماء، ويجد أبناؤنا أنفسهم أمام عالم يُشبه ما عاشه أجدادنا، بدون عوالم افتراضيَّة، أو هذا الامتداد الإلكتروني الَّذي ظنناه جزءًا من الطبيعة، وأتساءل بصدق: هل يستطيع هذا الجيل، الَّذي تعلَّم لَمْسَ الشاشات قَبل لَمْسِ التراب، أن يُعِيد تعلُّم أبسط مهارات الحياة؟ هل يعرف كيف يقرأ الطريق من حركة الشمس، أو كيف يطلب العون دون هاتف، أو كيف يصنع دفء بيته بيديه لا بزر صغير؟ وفي لحظة تأمل، يخطر لي سؤال أكثر جرأة: هل يُمكِن أن تكُونَ هذه الظواهر تذكيرًا من الكون نفسه، نوعًا من العقاب الرمزي على مغالاتنا في الاعتماد على ما صنعناه؟ هذا التصور قد يبدو سوداويًّا، لكنَّه يكشف هشاشة علاقتنا بالتقدُّم، ويضعنا أمام حقيقة أنَّنا قد نكُونُ أول جيل يعرف الكثير عن التقنيَّة، وأقلَّ جيل يعرف كيف يعيش من دونها.
ورُبَّما يتجاوز الأمر حدود التقنيَّة والعاصفة الشمسيَّة وكُلَّ ما نُسمِّيه خطرًا أو تهديدًا؛ لأنَّ ما يشغلني في النهاية هو الإنسان نفسه، هذا الكائن الَّذي يسير بَيْنَ النجوم محاطًا بضعف لا يعترف به، وقوَّة لا يعرف مصدرها، فنحن نمضي في حياتنا متخيلين أنَّ العالم يَدُور وفق ما نصنعه، وأنَّ المُدن تظل واقفة ما دامت المصانع تعمل، وأنَّ الحضارة باقية ما دامت الشبكات مضاءة، غير مدركين أنَّ الكون لا يلتفت لكُلِّ هذا، وأنَّه قد يقرر بلمحة واحدة إعادة ترتيب المعادلة كُلِّها من حَوْلِنا، فأنا أكتُب هذا بدافع الرغبة في فَهْمِ معنى الوجود حين تنطفئ ضوضاء التقنيَّة، ومعنى الإنسان حين يقف أمام نفسه بلا وسائط، بلا شاشة، بلا خريطة، هل سنكتشف أنَّنا كنَّا نعيش في طبقة رقيقة من الوهم؟ أم سنجد في داخلنا ما يكفي لنبدأ من جديد، كما بدأ أجدادنا من قَبل، حين لم تكُنْ هناك كهرباء أو موجات أو أقمار، ومع ذلك تركوا على الأرض أثرًا لم تستطع العصور مَحْوَه؟
إبراهيم بدوي

