كتبه في الزنزانة على طاولة خشب صغيرة بقلم حبر جاف مدافعاً عن براءته من قلب الانكسار
مارلين كنعان أستاذة الفلسفة والحضارات، كاتبة وباحثة
ساركوزي بين رجال الأمن في طريقه إلى السجن (أ ف ب)
ملخص
يأتي كتاب الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي البالغ من العمر 70 سنة “يوميات سجين”، الصادر حديثاً عن منشورات “فايار” في باريس ، كحدث سياسي وإعلامي استثنائي في فرنسا. فهو أول عمل يدوّنه رئيس سابق للجمهورية من داخل سجنه في لحظة انهيار سياسي وقضائي غير مسبوق في حياته.
حُكم على ساركوزي بالسجن مدة خمس سنوات بتهمة “تشكيل عصابة أشرار”، ودفع غرامة مالية قدرها 100 ألف يورو، في إطار ما يُعرف بملفّ التمويل الليبي لحملته الانتخابية الرئاسية عام 2007. وقد استأنف الحكم على الفور، وستعاد محاكمة الرئيس السابق لاحقاً، بعد أن قضى ثلاثة أسابيع مسجوناً. ولعل هذه اليوميات غير المتوقعة التي كُتبت “على عجل بقلم حبر جاف على طاولة صغيرة من الخشب المضغوط”، على ما نقرأ في فاتحة الكتاب، لا تقدّم مجرد شهادة على واحد وعشرين يوماً من الاحتجاز في سجن “لا سانتيه” الواقع في الجهة الشرقية من حي مونبارناس في الدائرة الرابعة عشرة من باريس، وإنما تطمح إلى أن تكون تبريراً ذاتياً، وتأملاً في معنى السقوط، ومحاولة لإعادة بناء سردية البراءة من قلب الانكسار.
يحتل الانتقال من قصر الإليزيه إلى زنزانة لا تتعدى مساحتها 12 متراً مربعاً المشهد الافتتاحي الذي يطبع اليوميات كلها. فبعد أن كان ساركوزي على ما يقول “يُستقبل بالأوسمة” وفق “البروتوكول”، ها هوذا يعبر بوابة السجن الباريسي بصفة معتقل يحمل رقم الإيداع 320535.
“يوميات السجن” لساركوزي (دار فايار)
يصف الرئيس الفرنسي السابق اللحظة الأولى لدخوله السجن بلغة بصرية كثيفة، فيتحدث عن اللون “الرمادي الذي يلتهم كل شيء ويغطي الأسطح كلها”، مشدداً على صورة تقف على النقيض مما عاشه في السلطة، حيث الأضواء والألوان والمساحات الواسعة. وإذ يرسم مشاهد الصدمة الجسدية والنفسية التي تعرض لها بدءاً بالفحص الجسدي، مروراً بالأصوات الليلية والتهديدات والصراخ الطالع من الزنزانات الأخرى، وتنقّلاته داخل السجن التي يُمنع فيها من لقاء أي سجين آخر، وممارسته الرياضة على رغم آلام ظهره، وزيارات عائلته له كل يومين، وصولاً إلى عجزه عن النوم بسبب قسوة الفراش، وعن تناول الطعام خوفاً من التسميم، نراه يعترف باكتفائه بأكل “ألواح الحبوب والشوكولاتة وشرب اللبن والمياه المعدنية”، مجتهداً في إبراز هشاشة وضعه، مقابل ما يراه ظلماً قضائياً ثقيلاً.
فراغ مطبق
يصف نيكولا ساركوزي السجن كفضاءٍ خالٍ من أي نشاط. ففيه “لا شيء يُرى، ولا شيء يُفعل”. غير أن هذا الفراغ يوقظ بحسبه “الحياة الداخلية” والأسئلة الوجودية كلها. ولعله يجعل من الكتابة الملجأ الوحيد، معترفاً بأن مشروع كتابة اليوميات لم يكن مخططاً له مسبقاً، لكنه أتى كمحاولة للإجابة عن سؤال كيفية وصوله إلى هذا الوضع.
يتوقف الرئيس مطولاً أمام فعل الكتابة اليومية التي تتبدى في اليوميات كوسيلة لمقاومة الإحساس بالانهيار، شارحاً على توالي 210 صفحات انكبابه على وصف أحواله الجسدية والنفسية، ثم إعطائه الأوراق إلى محاميه لطبعها، مشدداً على أن الكتابة مكّنته من استعادة السيطرة على سرديته الخاصة، رافضاً “الاستراتيجية التي يريد المسار القضائي، عن قصد أو غير قصد، فرضها” لإضعاف المتهم، ولجعله يشعر بالذنب.
يشكّل البعد الروحيّ أحد أهم محاور اليوميات السجنية. ففي اليوم الأول من دخوله السجن، يصف ساركوزي لحظة ركوعه مصلياً، داعياً الله أن يمنحه القوة لحمل صليب الظلم الذي يتعرض له. وقد كانت السجدة والصلاة باعترافه أمراً بديهياً.
سجن ساركوزي وتبدو الطاولة الصغيرة التي كتب عليها يومياته (أ ف ب)
يفرد ساركوزي صفحات عدة للحديث عن لقاءاته الأسبوعية بأحد الكهنة العاملين في خدمة المساجين، وعن حواراتهما حول الله، والغفران، ومكان الشر والخير في الإنسان، والعدالة والسلطة.
لا يدّعي ساركوزي أنه اختبر “التوبة” بمعناها الديني كالتحوّل القلبي إلى الله والندم الصادق والإقرار بالخطأ والسعي للتغيير نحو حياة ترضي الخالق، لكنه يتحدث عن اختبار “صفاء روحي” غير متوقع، ذاهباً حدّ القول إن من يسخر من “هذه الصحوة الروحية المفاجئة” يعجز عن إدراك أثر العزلة على النفس البشرية. هنا تتضح المعادلة الأساسية للكتاب وهي تحويل السجن من فضاء عقابي إلى مختبر تأمل ذاتي.
استعادة الخلافات
وعلى رغم طابعه الشخصي، لا يخلو الكتاب من السياسة. فبين سطور اليوميات تظهر الخلافات مع الرئيس إيمانويل ماكرون، وفتور العلاقة بينهما خلال السنوات الأخيرة. يتحدث ساركوزي في الصفحات الأولى عن موعده مع الرئيس في الإليزيه قبل أربعة أيام من سجنه، من دون أن يخفي عدم رغبته في النقاش معه، راوياً توتر العلاقة بينهما منذ “القرار المشؤوم بحلّ الجمعية الوطنية”، وسحب وسام جوقة الشرف منه. كذلك يذكر ساركوزي “الاتصال غير المتوقع الذي تلقاه من مارين لوبن” و”زيارة نواب من حركة “فرنسا الأبية” الذين جاؤوا للتأكد من عدم حصوله على أي امتيازات”، راوياً بتوتر واضح كيف اضُطر إلى البقاء في زنزانته لتجنب لقائهم، وكيف رأى في ذلك “انتهاكاً للحدّ الأدنى من الكرامة الإنسانية”.
يحيّي الرئيس السابق “شجاعة” ميشال بارنييه، الذي كان الوحيد من عائلته السياسية الذي أعرب عن رغبته في زيارته في السجن. ويشير كذلك إلى اتصالات وزير الداخلية حينها برونو روتايو. ولعل هذه المقاطع تعكس مستوى الاستقطاب السياسي في فرنسا، وكيفية امتداد الصراع إلى قلب المؤسسة السجنية.
اقرأ المزيد
ساركوزي يضع القضاء الفرنسي أمام “اختبار الحياد”
نيكولا ساركوزي خارج السجن… لكنه ليس بريئا
تمنح اليوميات أيضاً مساحة لافتة لحراس السجن، الذين يصفهم ساركوزي بطريقة إيجابية. فهم بحسبه “مهنيون”، حريصون على تطبيق القانون، ينادونه دوماً بـ “السيد الرئيس”، فيصفهم بأنهم “أكثر إنسانية مما توقع”، متوقفاً أمام زيارات مدير السجن له مساء كل يوم عند الساعة السادسة والنصف. كذلك تشير إلى دور زيارات زوجته كارلا بروني وابنه جان في تخفيف وطأة الزمن السجني. لكن الأهم هو موقفه من بقية السجناء، الذين لا ينظر إليهم بوصفهم خصوماً، بل “رجالاً محطمين”، مستحضراً معاناتهم “حين يكونون ثلاثة أو أربعة داخل الزنزانة نفسها”. هذا الوعي بمعاناة الآخرين لا يمنعه من تأكيد وضعه الاستثنائي، فهو يعيش في زنزانة منفردة، محاطاً بحماية دائمة، ولو كان معزولاً 23 ساعة في اليوم لدواعٍ أمنية.
ضحية آلة القضاء
يتفنن ساركوزي في تقديم نفسه ضحية لآلة قضائية “مهووسة بالعثور على مذنب” يلعب دور كبش المحرقة. فيهاجم القضاة ومنصة “ميديا بارت” الصحافية، معتبراً قضيته “عودة مقلقة إلى زمن محاكمات الرأي”، واصلاً حدّ استحضار قضية دريفوس، وإن كان يعترف بأنه “لم يُنفَ كالنقيب الفرنسي إلى جزيرة الشيطان”.
يستثمر ساركوزي هذا التشبيه القوي لتغذية خطاب الظلم المفرط، واضعاً قضيته في إطار تاريخي أكبر من حدودها الفعلية.
تُظهر اليوميات كذلك رغبة واضحة في إعادة إحياء مسيرة سياسية طويلة لرجل عاش “تجارب عدة”، لكنه وجد نفسه فجأة محاصراً بـ”جدران رمادية وصوت سلاسل المفاتيح”.
لا يقع القارئ في الكتاب على تحليلٍ للمؤسسة السجنية أو على اقتراحات إصلاحية، على رغم أن التجربة التي امتدت لمدة 21 يوماً كان يمكن أن تقود ساركوزي إلى ذلك. ويبدو أنه أراد لهذه اليوميات أن تكون في المقام الأول ذاتية وشديدة الخصوصية، محصورة في حدود تجربة شخصية ذات منحى تبريري واضح. ولعلها أقرب إلى محاولة إنقاذ رمزية لرئيس سابق منه إلى تأمل فكري عميق في السجن والعدالة.
تكمن قوة هذه اليوميات في صدقها العاطفي، وفي تصويرها الدقيق لحالات الخوف والوحدة والرجاء وإظهارها، ربما للمرة الأولى، الرئيس السابق إنساناً هشّاً، خائفاً، يبحث عن معنى لما يسميه “الحياة الغريبة جداً” التي قادته من رأس السلطة إلى زنزانة بلا لون. أما نقاط ضعفها، فهي بلا أدنى شك، انغماس كاتبها في الدفاع عن نفسه، وترديده لسردية المظلومية من دون مساءلة حقيقية لمسار سياسي حافل بالتعقيدات.

