قراءةً جديدةً للتطوّرات الخَطيرة للمَشهد السوري

1

كتب / عبد الباري عطوان…

قرار الهيئة العُليا للمُفاوضات المَدعومة سُعوديًّا مُقاطعة مُؤتمر الحِوار الذي دعت إليه القِيادة الروسيّة في مُنتجع سوتشي، واتّخاذ الأكراد في الشَّمال السّوري الموقف نفسه بسبب الحرب التركيّة في عِفرين، ليس لهما إلا تفسير واحد، وهو أن الإدارة الأمريكيّة اتّخذت قرارًا “بتَخريب” هذا المُؤتمر، وإفشاله، وإعادة إشعال فَتيل الحَرب في سورية مُجدّدًا اعتمادًا على قوّات سورية الديمقراطيّة، وبَعض “الصَّحوات” العربيّة.
الذّريعة الأمريكيّة لبَقاء القوّات في سورية هو تَجنيب تِكرار خطأ العِراق، وعدم السَّماح لـ”الدولة الإسلاميّة” بالعَودة مرّة أُخرى “كقُوّة إرهابيّة”، ولكن العمود الفِقري للسياسة الأمريكيّة هو إحياء مَشروع التّقسيم لكُل من سورية وتركيا، والعَودة إلى اتّفاق “سيفر” عام 1920 الذي كان جوهره إقامة دولة كُرديّة على أراضٍ مُقتطعة من العِراق وايران وسورية وتركيا تُشكّل الوَطن القَومي للأكراد، وهو الاتفاق الذي أجهضه كمال أتاتورك.
بعد سبع سنوات من انخراط تركيا في المِصيدة الأمريكيّة الغربيّة في سورية، وتقديمها خدماتٍ لا تُقدّر بثَمن لإنجاح المَشروع الأمريكي “الخَديعة” في زَعزعة استقرار أمن جارتها الشرقيّة الجنوبيّة، وحَليفتها العربيّة السَّابِقة (سورية)، أبرزها تَسهيل مُرور المُقاتِلين والأسلحة والأموال القادِمة من دُول الخليج، بدأت القِيادة التركيّة المُمثّلة في الرئيس رجب طيب أردوغان تُدرك أن السِّحر الأمريكي انقلب عليها دَمارًا وتَقسيمًا.
*
إبراهيم كاراغول، الكاتب الرئيسي في صحيفة “يني شفق” المُقرّبة جدًّا من الرئيس أردوغان وحِزبه قال في آخر مقالاpته يوم أمس “أن أمريكا باتت تُشكّل أكبر تهديد لتركيا، إنّها دولة عَدوّة تتبنّى خُطّةً لتَدمير تركيا على غِرار ما فَعلته في العِراق وسورية”، وطالبَ بإغلاق قاعدة “إنجرليك” الجويّة التي تستخدمها أمريكا مِنصّةً لدَعم حِزب العُمّال الكُردستاني و”داعش”.
الرئيس أردوغان واصَل تَهديداته اليَوْمْ بسَحق “الإرهاب” على طُول حُدود بِلاده الجنوبيّة مع سورية، ومَنع إقامة قواعد أمريكيّة إسرائيليّة تُهدّد أمن تركيا واستقرارها ووحدِتها الوطنيّة.
السُّؤال المَطروح حاليًّا هو عمّا سيَفعله الرئيس التركي في مُواجهة هذا المُخطّط الأمريكي لتَفتيت الوِحدة التُّرابيّة لبِلاده الذي باتَ يُجاهِر به وإخطاره ويُعبئ الشَّعب التُّركي ضِدّه.
قبل الإجابة على هذا السؤال لا بُد من الإشارة إلى أن تهديدات الرئيس أردوغان بفَتح جبهة منبج وتَطهيرها من وحدات الحِماية الشعبيّة الكُرديّة لم تُطبّق عمليًّا حتى الآن، واقتحام المدينة قد يَتأجّل لأشهر وربّما سنوات، لأن الولايات المتحدة رَفضت سحب قوّاتها منها، على غِرار ما فعلت روسيا في عفرين، لتَسهيل مُهمّة الجيش التركي المُعزّز بوَحدات من الجيش السوري الحر، والأكثر من ذلك واصَلت دعم الأكراد بمِئات الشَّاحِنات المُحمّلة بالمُدرّعات والمَدفعيّة والذَّخيرة، واقتحام المَدينة باتَ يعني مُواجهةً عَسكريّةً مع أمريكا.
السّلطات السوريّة تُراقب الموقف في عِفرين ومنبج بحذر شديد، ولم تُقرّر بعد التدخّل في عِفرين لمُواجهة التوغّل العَسكري التركي، ولكن البَيان الصّادر اليوم (الأحد) عن اللّقاء الذي تَم بين الرئيس بشار الأسد وضيفه حسين جابري أنصاري، مُساعد وزير الخارجيّة، ربّما يُوحي بأن الانتظار السوري قد يكون اقترب من نِهايته عندما أكّد أن هذا اللقاء تناول “بحث مخاطِر العُدوان التركي المُتواصل على الأراضي السوريّة، والجرائم التي يرتكبها في حق المُواطنين السوريين، وكيفيّة مُواجهة هذا العدوان ومَنعه من تَحقيق غاياته المُتمثّلة في احتلال أراضٍ سوريّة ودَعم التّنظيمات الإرهابيّة ونَسف الجُهود الرامية إلى إيجاد حَلْ سِلمي يُعيد الأمن والاستقرار إلى سورية”.
القِيادة السوريّة، مِثلما يقول مُقرّبون مِنها، لا تَثق بالرئيس أردوغان ولا تُطمئن لتحرّكاتِه، وفي المُقابل لا يُريد الرئيس التركي فَتح قنوات اتّصالٍ عَلنيّة مع هذهِ القِيادة، لأنّه ما زالَ يُراهن على حُلفائِه الإسلاميين السّوريين، وإبقائهم إلى جانبه، ويَتمسّك بأمل إسقاط الرئيس بشار الأسد.
وطالما استمرّ الرئيس أردوغان في رِهاناته هذهِ التي لم تَتحقّق طِوال السَّنوات السَّبع الماضية بالتدخّل العَسكري، وبدَعمٍ أمريكي أوروبي خليجي، فمِن الصّعب تَحقيقها الآن، بعد الانقلاب في المَوقف الأمريكي ضِد تركيا، وتَفضيلها الخَندق الكُردي على الخَندق التُّركي.
لا خَيار أمام الرئيس أردوغان وهو “البراغماتي” غير الوقوف في المُعسكر المُقابل لـ”العَدو” الأمريكي، الذي يَضم إيران وروسيا وسورية، وبدرجةٍ أقل العِراق، لأن “السِّكين الأمريكي وَصل الى العَظم التركي”، على حَدْ وصفه في إحدى خُطبه الأخيرة.
ليس هُناك ما يُعيب الرئيس أردوغان إذا ما قَرّر تغيير سياساته، والتَّحالف مع “أعداء الأمس″ في مُواجهة “أعداء اليَوْمْ”، أي الأمريكان الذين يُريدون تَقسيم بِلاده وتَدميرها، مِثلما تقول الصَّحيفة النَّاطِقة باسمه، ويَتلقّى كُتّابها تَعليماتِه، ويُعبّرون عن وِجهة نَظر حُكومته ومَصالحها.
*
الرئيس بوتين لن يَسكُت على مُحاولات تَخريب مُؤتمر سوتشي الذي دعا إليه ويَتبنّاه كمَنظومة بَديلة لتَتويج انتصارِه العَسكري، باتّفاق سياسي في سورية، ولعلّ ما قاله الجِنرال أليكسندر إيفانوف، المُتحدّث باسم قاعدة حميميم العسكريّة الروسيّة “إن إعلان المُعارضة السوريّة امتناعها عن حُضور مُؤتمر سوتشي سَيكون له تَبِعات عديدة على الأرض.. وتأخّر مَسار العمليّة السياسيّة لن يكون من صالِح المُعارضة بأيِّ شَكلٍ من الأشكال”، مُضيفًا “بالطّبع لا يَزال لدينا الكَثير من العَمل للقَضاء على التَّنظيمات المُتطرّفة في سورية”.
هذهِ رِسالة تهديد روسيّة واضِحة للمُعارضة السوريّة عُنوانها الأبرز هو التَّصعيد العَسكري، والقِيادة الروسيّة التي تَدخّلت عَسكريًّا، وخَسِرت أكثر من 80 عقيدًا وجِنرالاً وضابِطًا في سورية لا يُمكن أن تُضحّي بكُل هذهِ الإنجازات التي حَقّقها تدخّلها المُكلف ماديًّا وبَشريًّا على مَدى السَّنوات الثَّلاث الماضية مَهما كَلّف الأمْر.
الكُرة الآن في مَلعب الرئيس أردوغان وعَليه أن يَحسم خَياراتِه بسُرعة وجِديّة، إذا كان يُريد فِعلاً الحِفاظ على أمن تركيا واستقرارها ووِحدتها الوطنيّة والترابيّة، ومَنع إعادة التَّاريخ إلى الوراء مِئة عام، وإلى اتفاقيّة “سيفر” على وَجه التَّحديد، فوِحدة الأراضي التركيّة، من وِحدة الأراضي السوريّة والعِراقيّة والإيرانيّة في إطارِ تعايشٍ ومُساواةٍ وعدالةٍ اجتماعيّة على أرضيّة دِيمقراطيّة صَلْبة.. فهَل يَفْعَلها الرئيس أردوغان؟

التعليقات معطلة.