تنوير!!

1

 
عادل سعد
 
”إن أساس المسرات التي تعاني مناسيبها شحة واضحة في الزمن الحالي هي في الارتقاء الحقيقي عندما ندافع الآخرين بذات الإحساس والهمة التي نريدها لأنفسنا, وليس أن ندفع دماءً على وفق ما نشهده من حفلات القتل والتدمير والتخريب وادعاء المفاضلة بيننا في ذات الاتجاه الذي دفع أولئك الشبان الثلاثة إلى التطاول على السيدة العذراء، علما أنهم لا يمكن أن يحصدوا لصالحهم إلا الكثير من النبذ والعزلة والانكشاف الاجتماعي…”
لأن الخطأ والتشفي والنكايات والاستثمار في السيئات فحسب باتت من البضائع الاجتماعية الرائجة المتداولة يوميا، لذلك أن المواقف الصالحة تدهشنا كثيرا, وتجعلنا مذهولين بشأنها تحت طائلة فقر الواقع الذي نعيشه إلى مثل تلك المواقف.
تحضرني هنا للمطابقة بشأن هذا التشخيص ما أقدمت عليه القاضية المسيحية اللبنانية جوسلين متي في قرار قضائي اتخذته قبل عدة أيام, وألزمت بموجبه ثلاثة شبان مسلمين بحفظ سورة آل عمران عقوبة لهم على إساءة ارتكبوها بحق السيدة العذراء أم السيد المسيح عليه السلام، مع ملاحظة أن سورة آل عمران في القرآن الكريم تتضمن السيرة العطرة لهذه السيدة المبجلة ووقائع ولادة السيد المسيح، علما أن عقوبة التطاول على الأديان ضمن نصوص القوانين اللبنانية السجن بين ستة أشهر وثلاث سنوات ضد كل من يزدري الشعائر الدينية أو رموزها.
الحال أن مساحة التأييد التي نالتها هذه القاضية إعجابا بما اتخذته يكشف كم هي حاجتنا في الحياة اليومية لأن نتعرف على بعضنا البعض, وكم نبقى في عوز قاسٍ إذا ارتضينا لأنفسنا التقوقع ضمن تابلوهات مغلقة نجتر معارف ورؤى لا تنسجم والحضور الإنساني الراقي الذي نادت به الشرائع السماوية, ويقيني أن ما أقدمت عليه القاضية يتسم بالذكاء, فقد انطلقت من تأسيس تضامني هو الآن غائب عن حياتنا, وإذا استخدمناه فكأنما نحن أصحاب اختراع غير مطروق, وقد نتفاخر به كثيرا في حين يجب أن نحتمي ببعضنا البعض على وفق النصيحة الأيرلندية, لأن أتعس أنواع الفقر هو الفقر الذي يجعلنا أوطأ من القادرين على إسعاد الآخرين وحماية قيم التشارك والألفة.
إن أساس المسرات التي تعاني مناسيبها شحة واضحة في الزمن الحالي هي في الارتقاء الحقيقي عندما ندافع الآخرين بذات الإحساس والهمة التي نريدها لأنفسنا, وليس أن ندفع دماءً على وفق ما نشهده من حفلات القتل والتدمير والتخريب وادعاء المفاضلة بيننا في ذات الاتجاه الذي دفع أولئك الشبان الثلاثة إلى التطاول على السيدة العذراء، علما أنهم لا يمكن أن يحصدوا لصالحهم إلا الكثير من النبذ والعزلة والانكشاف الاجتماعي الذي قدمنا بسببه الكثير من الخسائر (نقدا) أو بصورة غير مباشرة.
إن العودة إلى النقاء الروحي وقيم الصداقة والتواصل مع الآخرين هي مفاتيح خلاص من كل ظواهر التأزم والشد تطبيقا لقوله تعالى: “فمن عفا وأصلح فأجره على الله”.. وقوله تعالى: “ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم”.
الخلاصة من كل ذلك, أننا بحاجة ماسة إلى مراجعة بنيوية تضع بالاعتبار أن نزعة الحصص والإسراف في النيل من الآخرين والتصدي لطقوسهم الدينية وباء اجتماعي ضربنا في العمق، ودفعنا ثمنا له وما زلنا مطلوبين لتسديد ضريبة في هذا الشأن، مع العلم أن الأغلبية العظمى منا مصابة بمتلازمة العزة بالإثم والامتناع عن الاعتراف بالخطأ، في حين أن هذا النوع من الاعتراف يمثل واحدا من سبل الخلاص.
إن للأفكار أجنحة كما يرى الفيلسوف ابن رشد؛ لذلك أملي أن يكون قرار الحكم التنويري الذي أصدرته القاضية الحكيمة قد اخترق العديد من النفوس المعتمة.

التعليقات معطلة.