السبب وراء صمود حل الدولتين

1

ميتشل هوخبرغ

في شباط/فبراير، أدلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإعلانه الشهير بأنه [فيما يتعلق بالصراع الإسرائيلي – الفلسطيني] “باستطاعته التعايش مع” حل دولة واحدة أو دولتين؛ وقد اعتبر ذلك عدد كبير من المحللين أنه يعني انهيار حل الدولتين. ولكن بعد ستة أشهر من المحادثات، والزيارة الدبلوماسية الأخيرة التي قام بها صهر الرئيس، جاريد كوشنر، إلى المنطقة، لم يُلمّح المسؤولون الأمريكيون علناً حتى إلى بديل عن حل نهائي للدولتين. وقد أثبتت فكرة الدولتين من جديد قدرتها على الصمود في ظل رفض رئيس أمريكي لها.

يجب أن لا يشكّل ذلك مفاجأة. فمنذ اعتماده من قبل الطرفين، قيل إن حل الدولتين للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني “عقيم”، و”سقيم”، و”منتهٍ” ببساطة. وكان من المفترض أن تلقى هذه السياسة حتفها في الأعوام 1995 و 2001 و 2007 و 2016. ومع ذلك، بقيت على قيد الحياة. وتمثلت الفكرة الأساسية في أنه يجب أن تتألف فلسطين التي كانت تحت الانتداب من كيانين يتمتعان بحكم ذاتي، واحد يهودي والآخر عربي. وقد حاولت خطة تقسيم فلسطين التي أصدرتها الأمم المتحدة عام 1947 تطبيق هذه الرؤية، لكن محاولاتها باءت بالفشل لأن الفلسطينيين والدول العربية رفضوها، وسرعان ما اندلعت الحرب بين إسرائيل وجيرانها العرب. ومنذ ذلك الحين، انخرطت الولايات المتحدة في مفاوضات سلام بين إسرائيل وجيرانها العرب، بمن فيهم الفلسطينيون. وقد شمل هذا الانخراط مفاوضات فك الارتباط التي أجراها وزير الخارجية هنري كيسنجر ما بعد حرب عام 1973، وإبرام الرئيس جيمي كارتر معاهدة سلام مصرية-إسرائيلية كادت أن تشمل الفلسطينيين في كامب ديفيد عام 1978، ومشاركة الولايات المتحدة شبه المستمرة في المحادثات الإسرائيلية-الفلسطينية منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي.

وقد أدّى الخلاف وعدم الثقة بين الطرفين إلى تعقيد إقامة دولة فلسطينية. وهدفت المفاوضات إلى التوصل إلى اتفاق يحمي أمن إسرائيل ويضمن في الوقت نفسه السيادة الفلسطينية، والتعامل مع المستوطنات اليهودية بطريقة تجعل من الممكن إقامة دولة فلسطينية متصلة الحدود، ومشاركة القدس بين الدولتيْن، من بين أهداف أخرى. غير أن التوصل إلى اتفاق كان صعباً. كما أن إيجاد قادة يتمتعون بدعم شعبي وبالشجاعة والاحترام المتبادل لوضع أسمائهم على مثل هذا الاتفاق كان أكثر صعوبة. فلماذا إذاً، على الرغم من مرور 20 عاماً على المحادثات غير الحاسمة وتفاقم الظروف للتوصل إلى اتفاق، يبقى حل الدولتين السياسة الأمريكية الفعلية إن لم تكن الرسمية ولا يزال يحظى بدعم واسع من الجالية اليهودية الأمريكية؟

سياسة مرنة

أولاً، لطالما كان من الصعب تحديد ما إذا كانت الظروف قد جعلت حقاً حل الدولتين غير ممكن بعد الآن. فهناك الكثير من المؤشرات على أن تحقيقه هو أمر صعب للغاية، ولكن ليس هناك شيء يؤكد استحالته. فلنأخذ على سبيل المثال بناء المستوطنات، التي لطالما حذرت إدارة باراك أوباما بأنه قد يقوّض إمكانية حل الدولتين. إن استمرار البناء الاستيطاني الإسرائيلي غير المقيّد يجعل من الصعب إيجاد أرض لإقامة دولة فلسطينية، ويزيد من عدد المستوطنين الإسرائيليين الذين قد يقاومون بعنف أي عملية إجلاء، ويشير إلى نوايا سيئة تجاه الفلسطينيين. ومع ذلك، ليس من الممكن معرفة ما إذا كان أي مثال جديد واحد لبناء المستوطنات سيجعل حل الدولتين غير قابل للتنفيذ. ففي النهاية، إن رسم خريطة بطريقة مبتكرة يمكن أن يعوّض الفلسطينيين من ناحية الأراضي، ويمكن بالتالي هدم المستوطنات ووقف البناء، ويكون هناك عدد مفاجئ من المستوطنين على استعداد للإخلاء.

وعلى نفس المنوال، من غير الممكن أن نقول على وجه اليقين ما إذا كانت عوائق أخرى تعترض سبيل تحقيق السلام قد أخرجت أي اتفاق عن طاولة المفاوضات بشكل نهائي. ففي الماضي، أسفرت المفاوضات عن اتفاقات عملية بشأن القضايا الرئيسية، وبإمكانها أن تؤدي إلى نتائج مماثلة في المستقبل. ومن الممكن دائماً بروز قادة جريئين يتمتعون بدعم شعبي. ففي النهاية، انسحب عرّاب المستوطنات ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أريئيل شارون من غزة. وصحيح أن انعدام الثقة عند الطرفيْن حقيقي، ولكن يمكن تقليصه. وبكل بساطة، في غياب صدور أي “وثيقة وفاة” فعلية، يبقى حل الدولتين على قيد الحياة.

ويتمثل العامل الثاني الذي يحافظ على حل الدولتين على قيد الحياة في عدم وجود بدائل سياسية فعلية. فلا يبدي أي من الطرفيْن حماسة حيال كونه أقلية دائمة في دولة يهيمن عليها الطرف الآخر، كما أن الولايات المتحدة تدعم تطلعات الشعبيْن، أو على الأقل “ما يرغب فيه الطرفان”. وهناك طرق محدودة لحل مثل هذا الصراع.

وكان المحللون يأملون في أن تستوعب دول مجاورة مثل مصر والأردن وسوريا الفلسطينيين وتحكمهم، ولكن الفلسطينيين طالبوا بحقهم في تقرير مصيرهم، ورفضت الدول العربية رسمياً حكمهم. وفي الوقت نفسه، يعتقد بعض الإسرائيليين من الجناح اليميني على غرار نفتالي بينيت أن العالم سيتكيّف مع الاحتلال الدائم الذي يتمتع بموجبه المواطنون الإسرائيليون بحقوق قانونية وببنية تحتية وبحماية أفضل من نظرائهم الفلسطينيين. ولكن إذا استمرت إسرائيل في هذا المسار، فمن المرجح أن تواجه عزلة دولية، تشمل تراجع الدعم اليهودي الأمريكي. وقد يعترض البعض ويقول إن إسرائيل حافظت على الوضع الراهن، ونجحت في تجنّب العزلة، ولكن تجدر الإشارة إلى أن الحكومات الإسرائيلية، بما فيها الحكومة الحالية، قد تجنبت بحذر ضمّ أجزاء من الضفة الغربية خوفاً من التداعيات الدولية.

ويأمل نشطاء فلسطينيون مثل ليندا صرصور بتوافر بديل: أي الضغط على إسرائيل من أجل منح الفلسطينيين حقوقاً كاملة في دولة واحدة ثنائية القومية. غير أن القادة الإسرائيليين لن يتخلوا عن طيب خاطر عن الأغلبية اليهودية في البلاد. بالإضافة إلى ذلك، فإن انعدام الثقة المتبادل والتاريخ الحافل بأعمال العنف سيجعل إقامة مثل هذه الدولة أمراً خطيراً.

وقد اعتبر المحللون أن البرنامج الجديد لـ “الحزب الجمهوري” في الولايات المتحدة، الذي لم يؤيد حل الدولتين، والمراوغة اللاحقة التي أحاطت برأي ترامب حول حل الدولتين، هما بمثابة تغيير في موقف الولايات المتحدة وسياستها. وبالفعل، لم يؤكد مجدداً فريق التفاوض الذي أوفده ترامب تأييده لسياسة الدولتين، رغم أن سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة نيكي هالي وآخرين فعلوا ذلك. وقد أزعج هذا التردد المسؤولين الفلسطينيين وأدّى إلى صدور تصريحات رسمية غريبة. وحتى الآن، لم يقدّم مفاوضو ترامب أي بديل لحل الدولتين، بل مجرد فكرة عن الدور الذي يجب أن تضطلع به الدول العربية في هذه العملية. وما لم يرغب صنّاع القرار في تبني موقف واضح والتعامل مع التداعيات الدولية والمحلية المترتبة، سيبقى حل الدولتين الهدف النهائي.

ومن الغريب أن سيطرة «حماس» على قطاع غزة تؤكد أهمية الالتزام بهذه السياسة – علماً بأن الحركة لا تؤيد حل الدولتين وتعتبرها كل من إسرائيل والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي رسمياً منظمة إرهابية. وبدون حل الدولتين، سيتبدد مصدر متضائل بل مهم لشرعية “السلطة الفلسطينية”. ومن دون هذه السلطة، سيساهم رفض الولايات المتحدة وإسرائيل التعاطي مع «حماس» في جعلهما تبدوان وكأنهما ترفضان التعامل مع المخاوف الفلسطينية.

أما السبب الثالث لمواصلة دعم حل الدولتين فهو أنه يصبّ في إطار انتهاج سياسة سليمة. فقد حافظت الجالية اليهودية الأمريكية ومنظماتها الأساسية مثل “لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية” و”رابطة مكافحة التشهير” و”المجلس اليهودي الأمريكي” [“اللجنة اليهودية الأمريكية”] – وهي الجماعة الأكثر انخراطاً في القضايا الإسرائيلية – على الدعم المؤسساتي لحل الدولتين رغم تردد بعض الجمهوريين بتشجيع من المنظمات اليهودية المنتمية إلى اليمين المتطرف. ويؤيد معظم اليهود الأمريكيين سياسة حل الدولتين كوسيلة للتعامل مع التداعيات المقلقة على الصعيدين الأخلاقي والأمني لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي. إن إصرار المنظمات اليهودية على التمسك بمقاربة يوافق عليها الحزبان الديمقراطي والجمهوري إزاء القضايا المرتبطة بإسرائيل قد أدى إلى اعتماد سياسة حل الدولتين.

أما بالنسبة لرجال السياسة المنفردين، فهم يخاطرون بخسارة الدعم السياسي والمالي اليهودي الأساسي إذا رفضوا حل الدولتين. غير أن الجماعات اليمينية المرتبطة بجهات مانحة – مثل الملياردير شيلدون أديلسون الذي يُعتبر قطباً من أقطاب الكازينو والمقرب من رئيس الوزراء الإسرائيلي – أسست قاعدة بديلة ممولة سياسياً للجمهوريين المهتمين بدعم مطالبة إسرائيل بكافة الأراضي الفلسطينية التي كانت تحت الانتداب البريطاني. ومن المرجّح أن تحول إمكانية عدم استمرار هذه السياسات الضمنية – أي الاحتلال المدعوم من الولايات المتحدة – دون تبلور وعود الجمهوريين لتصبح سياسة واقعية. ولم يؤيد أي من المانحين البارزين من المعسكر اليساري وجهات النظر القائمة على رفض حل الدولتين.

ومن دون بدائل جيدة في السياسة ونظراً للمخاطر السياسية، رفض عدد قليل من السياسيين حل الدولتين. كما أن الأصوات الوسطية وأبطال دعم الحزبين الديمقراطي والجمهوري لإسرائيل يملكون حوافز هائلة للحفاظ على إجماع الدولتين، نظراً لأن انهياره قد يؤدي إلى نقاش مفرط الاستقطاب حول مستقبل إسرائيل. وفي ظل هذه البيئة سيكون الحفاظ على دعم الولايات المتحدة الثابت لإسرائيل أمراً صعباً.

مستقبل المفاوضات

إن أياً من هذه العوامل – أي غياب مؤشرات جيدة على انهيار الحل تماماً، وغياب أي بدائل سياسية قابلة للتطبيق والسياسة المعتمدة – هو أمر منيع أو لا يمكن تغييره. ولكن هذه العوامل مجتمعةً تجعل تأييد الولايات المتحدة لحل الدولتين مصادقة متينة وقوية. ولم يأت صناع السياسة ولا السياسيون ببدائل عملية وقابلة للتطبيق.

ومع ذلك، هناك العديد من التهديدات لهذه السياسة. فقد تؤدي الجهود المستمرة التي يبذلها بعض المانحين من “الحزب الجمهوري” الأمريكي لتحويل الدعم لإسرائيل إلى قضية حزبية، إلى دفع عدد أكبر من الجمهوريين إلى معسكر اليمين إلى حد أبعد والانسحاب من توافق الآراء الأساسي. فضلاً عن ذلك، يتعاطف عدد كبير من الشبان التقدميين مع القضية الفلسطينية، الأمر الذي قد يجعل من الصعب على الديمقراطيين الحفاظ على المواقف الوسطية بشأن هذه القضية. وقد يعتبر رئيس مستقبلي، أو الرئيس الحالي، الوضع ميؤوس منه لدرجة قد تجعل الولايات المتحدة تتخلى عن دورها كوسيط، تاركًة الطرفين ليجدا حلاً لهذه الأزمة بنفسيهما. وقد تحكم هذه النتائج على الإسرائيليين والفلسطينيين بمستقبل سياسي خطير. ومن دون إطار عمل قائم على حل الدولتين، ستزداد صعوبة معالجة الخلافات الصغيرة، ، حيث لن يكون لدى الجانبين محفزات لضبط النفس.

ويمكن لصناّع السياسة والسياسيين العمل على تجنب هذه النتيجة. ويستطيع البيروقراطيون والمحللون بدورهم إعداد وسائل لإدارة الصراع وتحسين ظروف المحادثات تدريجياً، عوضاً عن خوض غمار جولات مستمرة من المفاوضات العالية المخاطر والشديدة التباين. فعلى سبيل المثال، يمكنهم تحديد توقّعات واقعية قصيرة الأمد ومحاولة توسيع المسؤوليات الإدارية لـ “السلطة الفلسطينية” أو المسؤوليات الأمنية لـ “قوات الأمن الفلسطينية” بشكل تدريجي. كما باستطاعتهم مناقشة سياسات تعزز إمكانية تطبيق حل الدولتين مثل وقف بناء المستوطنات الإسرائيلية شرقي الجدار الأمني أو تحسين الاقتصاد الفلسطيني. وفي المجال السياسي، سيتعين على النشطاء والسياسيين التصدي لموجات الاستقطاب الكبيرة والتحكم بحدود الجدال. وبطبيعة الحال، يكون هذا النقاش في غير محله إذا لم تبرز مؤشرات على التزام الطرفين بإحلال السلام. بيد، سيبقى حل الدولتين قائماً في المستقبل المنظور.

التعليقات معطلة.