خالد الحروب
ردات الفعل الناقمة على سيطرة أيديولوجيا مُعينة لفترة طويلة من الزمن تتسم في كثير من الأحيان بتطرفات حادة تنافس تطرف الأيديولوجيا المنقوم عليها. تكاد تكون هذه الملاحظة مشتركاً عاماً في حالات تتجاوز الحصر وبما يقربها من قانون الفيزياء الذي يشير إلى رد الفعل المساوي للفعل في القوة والمُعاكس له في الاتجاه.
حيثما تطرفت اشتراكية السوق مثلاً وامتدت هيمنتها عقودا طويلة على شعب هنا أو هناك ثم انهارت، اندفع السوق الحر بتطرف لا قيود عليه ليزيل أي اثر لتلك الاشتراكية ومُسبباً كوارث خاصة به. وحيثما تطرف الالتزام بالدين والتدين قسراً على مجتمع هنا أو فضاء هناك، فإن التحلل منهما يقفز إلى أقصى مدى فور بروز إمكانية التخلص من تلك القسرية الدينية. وحيثما تطرفت العلمانية في التدخل في شؤون ومسلكيات الأفراد على الضد من جوهرها الأصلي، كما في تركيا أتورك مثلاً، فإن النكوص عنها باتجاه خصمها الأيديولوجي يكون سريعا وحاداً أيضاً عندما تحين الفرصة. وفي تحولات واندياحات العولمة في العقود الأخيرة شهد العالم الظاهرة ونقيضها، فسيطرة العولمة «وأيديولوجيتها» التي رآها كثيرون، بحق أو مبالغة، مجرد «غربنة» انتجت ارتدادات عديدة في رقاع العالم إلى الثقافات المحلية والتمسك بها، وأحياناً إلى حد التعصب والبله.
في كل هذه الارتدادات بين الأيديولوجيا ونقيضها ثمة نقطة أساسية تتوقف عندها هذه السطور وهي نشوء هشاشات ورخاوات ما بعد الأيديولوجيا خلال الحقبة التي تلي انهيار أيديولوجيا ما أو فكرة كبيرة ما. ففي هذه الحقبة تختلط أمزجة التحرر من السيطرة المديدة للأيديولوجيا المُنقضية مع البحث المُتعجل عن بدائل سريعة مع الانحياز التلقائي وأحياناً الأعمى للفكرة المُضادة تماماً لتلك الأيديولوجيا. قد تطول أو تقصر حقبة ما بعد الأيديولوجيا المُنهارة، وقد تتطور أيديولوجيا أو فكرة مُهيمنة جديدة، أو عدة أفكار تتفاوت في الصلابة والليونة، أو قد تأخذ الأمور شكلاً أو أشكالاً أخرى مختلفة تماماً.
لا خلاف، تقريباً، على توقع المآلات التي تنتهي إليها أي أيديولوجيا تفقد ثوريتها الأولية ثم تتحول إلى كتلة مصمتة ومتطرفة ولا تعدل ذاتها استجابة لسياقات الواقع. لكن في ذات الوقت لا يبرر هذا التوقع والتقدير الإسترذال المُسطح عند كثيرين لفكرة الأيديولوجيا ودورها في حركة التاريخ والانتفاض على التكلسات التي تشل الشعوب والمجتمعات. ويتبدى إسترذال الأيديولوجيا والتفنن في شتمها في اتفه صوره عندما يصدر عن أنصاف جهلة علاقتهم بالثقافة والفكر وحركة التاريخ صبيانية وطائشة. صحيح أن تاريخ القرن العشرين، بنازيته وستالينيته وفاشيته على وجه التحديد، قد الحق بالأيديولوجيا كل سوء، لكن من الصحيح أيضاً أن في ذلك ابتسار مُخل وكبير بفكرة الأيديولوجيا من الأساس، وهي التي تنطوي على معان ومفاهيم متعددة. الأيديولوجيا في الأصل هي علم الأفكار واللفظة الانجليزية ideology مركبة من كلمتي أفكار وعلم idea وlogy تماماً مثل سوسيولوجي أو بيولوجي، علم الاجتماع أو علم الأحياء على الترتيب. أو عند البعض هي علم اجتماع المعرفة. لكن المعنى الاصطلاحي لـ «أيديولوجيا» هو الذي سيطر على الخطاب الثقافي والسياسي وهو المعنى الذي يشير إلى الأيديولوجيا بكونها مجموعة من الأفكار والمبادئ المترابطة عضوياً، والتي تقدم في مجموعها رؤية محددة للإنسان والعالم والتاريخ، وتدفع باتجاه مستقبل معين بكونه الأفضل للمجتمع أو المجتمعات التي تخاطبها وتستهدفها تلك الأفكار (الأيديولوجيا). مع توالي الحقب الزمنية وفي جغرافيات الأرض المتنوعة لم يكن للعالم وشعوبه أن تتقدم في مسيرتها البشرية من دون الأيديولوجيا، جزئية كانت أم متكاملة. التحولات الكبرى والثورات الإنسانية والانتقالات العريضة بالمجتمعات كانت نتاج حركة الأفكار وتفاعلها وانطلاقتها نحو التغيير. يمكن القول باختصار إن ثمة أيديولوجيا مرنة وأخرى مصمتة قاسية، الأولى ذات فاعلية إيجابية وحركية ومنفتحة على التعديل، والثانية مغلقة على ذاتها تتطور عنها ومعها نزعة تسلطية وقمعية.
في الفضاء العربي ومنذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى الآن حضرت أيديولوجيات متنافسة الليبرالية والقومية العربية والاشتراكية والاسلاموية، وهناك أيضاً «أيديولوجيا الحفاظ على الأمر القائم». تُرجمت هذه الأيديولوجيات على شكل رسمي حكومي أو نخبوي سياسي أو ثقافي، بمعنى أن بعض الأنظمة العربية تبنت هذه الأيديولوجيا أو تلك سواء عن قناعة أو تضليل أو خليط من الإثنين، بينما ظلت هناك نخب بعيدة عن الأنظمة الحاكمة مُقتنعة بهذه الأيديولوجيا أو تلك كمجموعة أفكار فعالة، وبأمل إحداث تغيير إيجابي في المجتمعات العربية، أو في قدرتها على مواجهة التحديات المفروضة عليها من الخارج. بعض تلك النخب دائر في فلك الأنظمة القومية والاشتراكية، وبعضها كان مُطارداً من قبلها أو ناقداً لها. لكن في المحصلة وفي نظرتها لإسرائيل والعلاقة معها تبنت الأيديولوجيات الأربع الأولى سواء على الصعيد الرسمي أم غير الرسمي خطابات غير مهادنة ومعادية، وبدرجات متفاوتة. الفشل السياسي والعسكري الرسمي، خصوصاً الناصري والبعثي، في المواجهة مع الدولة العبرية أفقد هذه الأيديولوجيات الصدقية وأضعفها إلى درجة كبيرة. لكن وبعيداً عن المساحة الرسمية بقيت كثير من العناصر المُشكلة لأيديولوجيا القومية العربية أو الماركسية العربية أو أي نزعات ثورية ومقاومية موجودة وذات تأثير مهم في الفضاء العربي العام. إلى جانب تلك الأيديولوجيات الواضحة كان ثمة «أيديولوجيا الحفاظ على الأمر القائم»، أو ربما يمكن أن ننحت لها وصف «الأيديولوجيا العربية المُحافظة»، الحاضرة والقوية، والمتأسسة على فكرة واحدة هي الدفاع عن الوضع القائم في هذا البلد أو ذاك، وهي كسائر الأيديولوجيات الأخرى تُرجمت في شكل أنظمة سياسية ونخب قريبة منها. ظلت هذه الأيديولوجيا مُفرغة من أي منظومة أفكار عضوية ومتماسكة تجاه أي قضية من القضايا الكبرى، بما فيها النظرة والموقف من إسرائيل، لأن أولويتها غير المهادنة كانت وبقيت متجذرة في هم الحفاظ على الوضع القائم. طبعا هناك أنظمة اشتراكية وقومية وغيرها كان الحفاظ على الوضع القائم والحكم فيها هو الأولوية الجوهرية، وقد تشاركت مع أنظمة الأيديولوجيا العربية المُحافظة في تلك الأولوية.
بعد زيارة الرئيس المصري أنور السادات للقدس في أواخر السبعينات وما تبعها من اتفاقيات سلام كامب ديفيد، انحصر ذلك السلام في الدائرة الرسمية وظل سلاماً بارداً، وانسدت كل أوجه التطبيع في وجه المحاولات الإسرائيلية. كان السبب وراء ذلك هو امتلاء المشهد النخبوي والسياسي والثقافي المصري بخطابات صلبة من الإرث القومي العربي والماركسي والناصري والإسلاموي. الآن وفي مرحلة أفول الأيديولوجية القومية العربية والماركسية وتهلهل الأيديولوجية الليبرالية العربية وتسطحها رسمياً، وتبعثر الأيديولوجيا الإسلاموية بين العنف وغياب البوصلة والإنجاز الحقيقي، تبدو «أيديولوجيا المحافظة العربية» مُسيطرة على مساحة كبيرة من الفضاء العام العربي. وفي الجانب الخاص بموضوع هذه السطور يمكن ملاحظة أثر غياب الأفكار المتماسكة والصلبة تجاه إسرائيل أو غيرها من التحديات الكبيرة، وانعكاس ذلك على استسهال مسألة التطبيع معها. الفراغ الأيديولوجي الناشئ في المنطقة العربية في اللحظة الراهنة أزاح المواقف الصلبة والمبدئية إزاء إسرائيل بكونها دولة كولونيالية استيطانية واحتلالية وقائمة على الظلم وتعتمد أيديولوجيا صهيونية اعتبرها الأمم المتحدة في سبعينات القرن الماضي فكرة عنصرية بحتة. وعوضاً عن ذلك تبرز أصوات ودعوات تتصف بالرخاوة والهشاشة والسطحية الفجة التي تنظر إلى إسرائيل ك «دولة عادية» في المنطقة، على غير ما ترى غالبية شعوب ونخب العالم بأسره. أفول الخطابات الأيديولوجية العقلانية في الفضاء العربي، وعلى أمراضها وتجاوزاتها وإخفاقاتها، يفسح المجال الآن لصعود خطابات انتهازية وطائشة ولا تُعرف لها بوصلة.