صلاح سالم
في جدل الدين مع الحداثة دارت المعركة حول محورين: الأول هو حدود العقلانية، أي قدرة العقل على ممارسة المعرفة ومقاربة الحقيقة في العالم الطبيعي، وهو الميدان الذي شكل النقد التنويري النظري للدين. أما الثاني فهو الحرية الإنسانية، أي قدرة الإنسان على إعمال إرادته وممارسة حريته في العالم الاجتماعي، وهو ما شكل النقد التنويري العملي. على صعيد النقد النظري كان اشتباك العقل النظري مع العقيدة الدينية نفسها، حيث دار الصراع وانشغل العقل بجذور الاعتقاد الديني أو مفهوم الألوهية. وعلى صعيد النقد العملي دار الصراع حول دور الدين في الحياة اليومية، ودور المؤسسات الدينية في المجال العام، خصوصاً على مشروعية تغولها على نظيرتها الزمنية، حيث لعبت ظاهرة الكهانة دور الغريزة الأساسية للاجتماع الإنساني عبر التاريخ. أفضى النقد النظري (العقل المحض) الى مفهوم العقلانية، كركيزة أولى من الركائز الست المعتبرة للحداثة. أما النقد العملي (العقل السياسي) فأفضى الى تبلور مفهوم العلمانية، كركيزة ثانية لها.
ومن ثم يصير العَلماني، بفتح العين، هو الشخص المنتمي الى هذا العالم، المنشغل بالملكوت الدنيوي، ومن ثم بحركة التاريخ بعيداً من الدروشة الصوفية أو النزعات العبثية، حيث يمنح العقل الإنساني، مستقلاً عن الدين، دوراً أساسياً في مقاربة مختلف مجالات الحياة، واكتشاف الغايات التي يجدر تحقيقها في هذا العالم والوسائل المعنية بتحقيقها. ومن ثم تصبح العَلمانية أقرب الى موقف إبستيمولوجي/ معرفي، يحترم العقل، ويسعى الى تنظيم المجال السياسي على أسس عقلانية.
فالعلمانية السياسية هي العقلنة ولكنها مطبقة على الفضاء السياسي، أي على ظواهر من قبيل ممارسة السلطة وتداولها، وليس على الحقل المعرفي. ومن ثم لا تعني العلمانية بالضرورة موقفاً أنطولوجياً/ وجودياً، يفرض على معتنقه رؤية مادية شاملة، تجعل من العلم التجريبي القائم على مفهوم الحتمية مصدراً وحيداً للحقيقة، على النحو الذي قد يذهب اليه الشخص العلموي، الذي يتخذ من المعرفة الوضعية كما تتجسد في العلوم الطبيعية، نموذجاً يسعى الى تعميمه على المجالات المختلفة، نافياً إمكان المعرفة الخلقية أو الدينية، لأن القضايا المتعلقة بأي منها لا يمكن إخضاعها، من حيث المبدأ، لمعايير العلم التجريبي. فهي قضايا ميتافيزيقية، ومن ثم فهي زائفة.
بالطبع يربط البعض بين مفهوم العَلمانية السياسية، وبين النزعة العلموية، التي تنطوي على موقف سلبي من الدين، ولكن هذا الربط يبقى أيديولوجياً يقصد اليه صاحبه، وليس ارتباطاً حتمياً يفرضه الانتماء للحداثة كموقف من العالم، والعلمانية كضرورة لتأسيس الدولة الحديثة. ولكن، ما جدوى هذا الجدل النظري الآن؟ وما مغزى استعادته هنا ؟ والحق أن تلك الجدوى قد تغيب لدى قارئ يشاركنا الموقف الفكري ذاته، ولكن يختلف الأمر لو كان الهدف تطوير السجال مع الرافضين لهذا الموقف، والذين أخذ الفكر العربي ينافقهم منذ سنوات، متخلياً عن دعوته الصريحة الى العلمانية، تحت تهديد الاتهام بالإلحاد وما يشبهه من انتقادات، منسحباً الى مفاهيم جزئية تخاطب جزءاً من الفضاء الواسع للمفهوم من دون آخر، من قبيل «الدولة المدنية» أو «دولة القانون» أو غير ذلك.
والحق أن الفكر العلماني العربي صار في حاجة الى الهجوم بعد فترة من الدفاع، خصوصاً بعد المآسي التي خلّفها الربيع العربي، والتي تغذت على نزعات التأسلم بكل أطيافها، والتي أحرقت الأرض، وأثارت الكثير من الشكوك العقلية في اليقينيات التي كانت مستحكمة، السياسية أو حتى الدينية. ولعل هذه الفترات القلقة من عمر الزمن، على رغم سلبياتها العديدة، هي التي يقبل فيها الناس على تمحيص مفاهيمهم المستقرة، مع إمكان قبول أخرى جديدة، لعل أهمها مفهوم العلمانية الذي بات بمثابة ضرورة شاملة، بل فريضة الوقت، التي لا يجب ولا يمكن تأجيلها.
غير أن نجاح الهجوم هذا يتطلب نوعاً من المرونة، وتخلياً عن حال التصلب العلماني لدى كثيرين من مفكرينا، ففي ندوة مشتركة بيني وأحد أقطاب العلمانية في مصر، وأمام جمهور كبير، طرح أحد الحاضرين، وهو قبطي، سؤالاً جسد قلقه من طرح القطب العلماني الاختزالي للمفهوم: ألا يمكن أن نقيم دولة علمانية، حرة وديموقراطية، وأن نحتفظ بإيماننا في الوقت نفسه؟ وكانت الإجابة التي صدمتني شخصياً قبل أن تصدم هذا الشخص وباقي الحضور هي: لا، وأنه آن الأوان لحسم الاختيار بين هذا الهدف وذاك.
والأمر المؤكد أن مثل هذا الخطاب التبسيطي، لن ينتج تقدماً، بقدر ما يثير المخاوف، بل إنه يظل قاصراً حتى من الناحية المعرفية، حيث صار المفهوم واسعاً ومتطوراً، إن على صعيد الممارسة التاريخية حيث تندرج في سياقه تجارب ونظم متعددة، أو على صعيد الجدل النظري حيث صارت تتناوشه اجتهادات مختلفة تصالح بينه والدين، تجاوزت تلك التصورات اليعقوبية التي أقامت بينهما تناقضاً جذرياً، لم يعد قائماً على أية حال. إن ما يجب تأكيده والتمسك به في الخطاب العربي حول مفهوم العلمانية، هو الحق في نقض أي تصور للدولة الدينية التي يدعي حكامها تفويضاً إلهياً مقدساً لحكم شعوبهم، كما حصل الأمر في التاريخ الأوروبي الوسيط. وأيضاً رفض كل أشكال الوصاية التي تعكسها الأيديولوجيات المتأسلمة الآن، إذ يرفض الفهم العلماني أن يكون لأي فئة من الناس الحق في احتكار المعرفة في الشؤون السياسية والاجتماعية، أو في أي شأن دنيوي آخر، على أساس أن معرفة ما الذي يريده منا الله في دنيانا متاحة لها وحدها. بل حتى الدور الذي يبقى لفقهاء المسلمين في تفسير الكتاب المقدس، إنما هو دور مكتسب لهم مشروط بتبحرهم بالمعرفة الدينية واللغوية، وليس نتيجة لشرط تحكمي يتعلق بخيرية ذاتية لديهم، أو بكينونة متميزة لمؤسساتهم يستعلون بها على غيرهم. وأخيراً الحق في التفسير العصري للمبادئ الأساسية والقيم الروحية في الأديان السماوية، عند وضع التشريعات القانونية لدولنا الحديثة، على رغم احترام المطلقات الأخلاقية في تلك الأديان، احترام الحق في ممارستها على أي نحو في المجال الخاص للفرد.