وليد شقير
يخفي السجال الذي اندلع في لبنان بعد دحر مسلحي «داعش» من الجرود اللبنانية بين مناصري «حزب الله»، وخصومه، ما هو أبعد من العناوين التي يستظلها، مثل مسؤولية الحزب عن ترك مقاتلي التنظيم الإرهابي ينسحبون على رغم قتلهم لبنانيين، سواء كانوا الشهداء العسكريين أم المدنيين الذين قضوا في التفجيرات المجرمة على مدى السنوات الماضية، أو مثل حجة الحزب ومريديه بأن الفريق الذي يحمل على اتفاقه مع «داعش» هو الذي تخاذل منذ عام 2014 أمام الإرهابيين حين احتلوا بلدة عرسال وحالوا دون دخول الجيش إليها لاستعادة العسكريين المخطوفين.
على أهميته لجهة تحديد المسؤوليات، في المبدأ، يضيّع هذا السجال القضية الجوهرية التي تشكل خلفيته، ويحجب السبب الفعلي لظهور الانقسامات التقليدية بين اللبنانيين، التي كانت تراجعت بفعل اتفاق على إبعاد الخلافات عن عمل السلطة السياسية إثر انتخاب العماد ميشال عون رئيساً، وعودة زعيم «تيار المستقبل» إلى رئاسة الحكومة. وانغماس بعض التصريحات من الجانبين في تفنيد سيئات أو حسنات الاتفاق بين «حزب الله» و «داعش» قد يساهم في التعمية على السبب الفعلي لوقائع يسهل إغراق الجمهور اللبناني في التباساتها، لأنه يصبح نوعاً من المماحكة والمبارزة الكلامية التي لا طائل منها.
فالمحاسبة والمحاكمة حول ما أحاط وتبع المعركة ضد «داعش»، تصبحان معدومتي الإمكان في ظل الانقسام العمودي على التوظيف الإقليمي لما حصل في الجرود اللبنانية والسورية. وإذا كانت البداية في مقاربة الموضوع تنطلق من أن الفيض «الداعشي» نحو لبنان منبعه الحرب في سورية، فإن التساؤل عن سبب عدم قيام الجيش اللبناني بإنهاء وجود «داعش» في الجرود اللبنانية، طوال السنوات الثلاث الماضية، يرتد نحو جيش النظام السوري و «حزب الله» نفسه. فلماذا لم يتخلصا من المجموعات الإرهابية في جرود فليطا ومسلحي «النصرة»، ثم في بقية القلمون الغربي من «داعش»، كما فعلا في الأيام الماضية، طالما أن الحزب يجهد الآن إلى تصدر الاحتفالات بالنصر؟ وهي الحجة التي يتسلح بها خصومه اللبنانيون اليوم، لاتهامه بمصادرة انتصار الجيش اللبناني. فهؤلاء يعتبرون أن المحور الإيراني- السوري قرر الانتهاء من وجود المجموعات الإرهابية في القلمون وعلى جانبي الحدود اللبنانية- السورية، عندما لاحت في الأفق إمكانية قطف الثمار، كي يملأ هذا المحور مرحلة ما بعد «داعش». وعلى الذين يغرقون في السجال حول مسؤولية الحزب عن اتفاق شابته ثغرات من الجهة اللبنانية، أن يعودوا إلى كلام أمينه العام السيد حسن نصرالله عن الهدف السوري للمعركة التي خاضها حين قال إنه بالتخلص من المسلحين في القلمون «أصبحت طريق دمشق- حمص آمنة بالكامل» في 24 آب (أغسطس) الماضي، معلناً أن التفاوض بدأ مع «داعش». فهذا أولوية بالنسبة إليه في اقتطاع منطقة نفوذ إيران على الخريطة السورية بعد إبعادها عن الاتفاق الروسي- الأميركي على «خفض التصعيد» في الجنوب الغربي لسورية، وغيرها…
ومن يغفل عن الوظيفة الإقليمية للمعركة التي خاضها الحزب والتي تتفوق على أي هدف لبناني من ورائها، يمكنه العودة إلى خطابه قبل أسبوع بأنه «لا يمكن تجزئة المعركة من الموصل إلى تلعفر وشرق حلب وشرق حماة والبادية السورية والرقة باتجاه دير الزور». أما التوظيف اللبناني عنده فهو الحؤول دون أي توهم عند البعض بأن تفوّق الجيش اللبناني في المعركة يسمح بالتشكيك بنفوذه في القرار السياسي اللبناني، أو يمكن أن يحول دون مواصلة إلحاق الساحة اللبنانية بالمعركة التي يخوضها على امتداد الإقليم. وليس الإصرار على الانفتاح اللبناني الرسمي على دمشق إلا إحدى الخطوات التي يعتبرها ضرورية لتكريس ما اعتبره انتصار المحور، رافضاً شراكة الآخرين بدحر «داعش».
رد الفعل العراقي على اتفاق «حزب الله» مع التنظيم الإرهابي، وسط اعتقاد بأن إرسال مقاتليه إلى دير الزور له وظيفة أخرى من الوظائف التي استغلها النظام السوري في السنوات الماضية تحت عنوان محاربة الإرهاب، يوضح جوهر أهداف المعركة التي خاضها الحزب. فاعتراض رئيسي الوزراء والمجلس النيابي العراقيين حيدر العبادي وسليم الجبوري على نقل «الدواعش» إلى البوكمال على الحدود العراقية- السورية، ثم تجديد مقتدى الصدر افتراقه عن سياسة إيران في بلاد الرافدين بلعنه النظام السوري، أطلقا سجالاً أكثر دلالة في بغداد من الذي شهدته بيروت. واضطرار إيران ومناصريها إلى استنفار الملتصقين بها، مثل نوري المالكي ونائب قائد «الحشد الشعبي» أبو تامر المهندس للدفاع عن الاتفاق مع «داعش» وعن نصرالله، أخذ من وهج انتصاراتها الإقليمية.