مشرق عباس
آخر ماكتبه المفكر الراحل فالح عبد الجبار في نصح «المدنيين» العراقيين المعترضين على التقارب مع «الوسطية الإسلامية» لمواجهة «الفاشية الإسلامية»، كان إشارة إلى أن «الدولة المدنية شعار إستراتيجي يستغرق تحقيقه حياة جيل كامل، فعسى أن نفكر بعقلانية ترى عموم الوضع وليس أجزاء أو نتفاً منه».
ومفهوم «الدولة المدنية» كان دائماً مثار جدل وتشكيك في العراق، اتفق أقصى اليمين الإسلامي مع أقصى اليسار الماركسي على أنه مصطلح موارب، وانضمت «الراديكالية العلمانية» إلى حفلة التشكيك، فهو مصطلح نقيض للدولة العسكرية حيناً، أو أنه مخرج للإسلام السياسي العراقي من محنة التاريخ أحياناً.
فالح عبد الجبار ونخب عراقية أخرى، لم تكن تفكر بتأصيل المفهوم أممياً، نظروا إليه مرة كمعبر مفاهيمي في طريق إنقاذ البلاد من قبضة التطرف الإسلامي الذي نما وازدهر بعد 2003، وفسروه مرة أخرى باعتباره إطاراً لتعريف «المدينة» تلك التي تصهر الهويات الثانوية، وتفرض نمط عيشها وقوانينها وهويتها في صراع هويات الوافدين إليها.
ذلك التعريف الأخير لطالما كان مدخلاً عراقياً صرفاً، فالأزمة العراقية عبرت عن نفسها بتنازع الهويات، وغياب «الدولة» لمصلحة «اللادولة» كان اطلق العنان لكل عفاريت التاريخ لتجور على الهوية الوطنية العراقية.
اعتبر فالح عبد الجبار ان انسحاب رجال الدين من الميادين السياسية، هو قدر لايمكن التحايل عليه طويلاً، وأن تبني شخصيات دينية مرموقة مثل المرجع علي السيستاني مصطلح «الدولة المدنية»، كان تحولاً لافتاً لايجب إهماله بل البناء عليه في رحلة صراع طويلة غايتها حفظ التعايش الاجتماعي الممتد، كما أنه أكد أن مقتدى الصدر لم يكن «هازلاً» بتحالفه مع الشيوعيين والعلمانيين والمدنيين، بل هي اللحظة الضرورية لشفاء شعب وضعته أميركا أمام أسوأ كوابيسه.
مع تسجيل الأحزاب العراقية أسماءها للانتخابات المقررة في أيار (مايو) المقبل، كان مصطلح «المدنية» حاضراً بقوة وربما بإفراط، تبنته بعض القوى الدينية هروباً من وصمة «الفشل» التي التصقت بتجربة «الإسلام السياسي» العراقي، واستخدمته أخرى لتفريغه من محتواه، ومنع الغالبية الساخطة من التصويت لقائمة مدنية صريحة.
المدنيون أنفسهم قدموا المساعدة المجانية للقوى المتربصة بشعارهم، فلم ينتظموا مبكراً تحت سقف سياسي واحد ولا في نطاق رؤية براغماتية حتى، بل انهم وهم يطلقون بتفان أخطر وأكبر التظاهرات ضد الفساد الحزبي والانهيار السياسي، تفرقوا حول أغراض التظاهر وحدوده، ثم تنازعوا حول الشراكة مع مقتدى الصدر في ساحة التحرير أو ساحة الاقتراع.
بالطبع، الأمر محسوم بأية حال لمصلحة «الدولة المدنية» ورواد نضالها، لكن الوقت قد يطول قليلاً قبل تحقيق هذا الهدف. وفالح عبد الجبار لم يكن يعتقد بأنه سيعيش ليرى تلك الدولة التي حلم بها في العراق، أحس دائماً بفداحة توقيت هذه المسؤولية الاجتماعية القاسية، فاجتهد وأجهد جسده خلال السنوات الأخيرة التي كرسها متفاعلاً مع المتغيرات الاجتماعية والسياسية وتداعيات حركة الاحتجاج وتصاعد صوت الشباب في مواجهة طبقة سياسية غارقة في الفساد والانقطاع عن شعبها.
رحيل فالح عبد الجبار في هذا التوقيت نكبة وطنية، لكل من شاركه حلم عراق يشبه ذاته، ولكل من آمن بإمكان إحداث التغيير، والعزاء الوحيد، أن قادة الفكر التنويري ينتصرون على دعاة الرجعية وصناع الوهم حتى في لحظة موتهم، ويستأثرون بمساحة تليق بهم وبنتاجهم الإنساني في ضمائر شعوبهم، عندما يحجز سواهم مساحات في مزابل التاريخ.