للكاتب
نجاح عبدالله سليمان
تعود بداية الجهود الدولية لإعمار العراق، إلى ما بعد حرب العام 2003، وسارت جنباً إلى جنب مع جهود الإصلاح الاقتصادي. وقد تمّ تنفيذ مشاريع دولية لترميم محطات مياه الشرب ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي، وإنتاج الكهرباء وإنشاء مستشفيات ومدارس ومساكن وأنظمة للنقل. وتم تمويل جزء كبير من العمل لإغاثة صندوق إعادة إعمار العراق، وسلطة التحالف الموقتة.
وكان مؤتمر مدريد لإعادة إعمار العراق في 23 تشرين الأول (أكتوبر) 2003 حدثاً مهماً في هذا الصدد؛ إذ حضره ممثلو أكثر من 25 دولة. وتم تجميع الأموال خلال المؤتمر بمعرفة الأمم المتحدة والبنك الدولي. وفي حين أن جهود إعادة الإعمار أنتجت بعض النجاح، نشأت مشكلات على الأرض مع تنفيذ المشاريع المدرجة، لاعتبارات أمنية، ولتفشي الفساد وعدم كفاية التمويل وضعف التنسيق بين الوكالات الدولية والمجتمعات المحلية. وبعد 15 عاماً انطلق في الكويت في منتصف شباط (فبراير) 2018 مؤتمر إعادة إعمار العراق الرامي إلى جمع أموال من المانحين الدوليين لدعم جهود بناء المناطق المتضررة من الحرب. استمر المؤتمر ثلاثة أيام بحضور ممثلي عشرات الدول ومئات المنظمات والشركات ورجال الأعمال، وراهن العراق خلاله على الدول المانحة، خصوصاً القطاع الخاص، للحصول على تعهدات مالية ضخمة. خُصص اليوم الأول للخبراء في إعادة الإعمار وللمنظمات غير الحكومية، واليوم الثاني للقطاع الخاص، واليوم الأخير لإعلان المساهمات المالية للدول المشاركة، وتعهدت منظمات دولية غير حكومية مع بدء المؤتمر بتقديم مساعدات إنسانية بقيمة 330 مليون دولار، وإن كانت كلفة الإعمار قد تتجاوز 88 بليون دولار.
تصريحات مدير «صندوق إعادة إعمار المناطق المتضررة من العمليات الإرهابية» مصطفى الهيتي جاءت صريحة وكاشفة، إذ قال إن «العراق بدأ أولى خطوات إعادة الإعمار، إلا أنه لم يتمكن من إنجاز سوى واحد في المئة منها حتى الآن». وأشار الهيتي في أولى جلسات المؤتمر إلى «وجود 2.5 مليون نازح بحاجة للمساعدة، وإلى نحو 138 ألف منزل متضرر، فيما لحق الدمار بأكثر من نصف هذا العدد جراء الحرب».
كذلك وزير التخطيط العراقي سلمان الجميلي، صرح بأن بلاده بحاجة إلى 88.2 بليون دولار لإعادة بناء ما دمرته الحرب، فيما أشار المدير العام لوزارة التخطيط العراقية قصي عبد الفتاح إلى أن إعادة إعمار العراق تتطلب جمع 22 بليون دولار في شكل عاجل، و66 بليون دولار أخرى في المدى المتوسط. وكان رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي توقّع في كانون الثاني (يناير) الماضي أن يكلف المشروع الضخم لإعادة إعمار البلاد 100 بليون دولار، وهو المبلغ الذي كان يأمل العراق أن يجمعه من مؤتمر الكويت.
المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة أعلنت أن «مؤتمر الكويت يوفر منبراً رئيسياً لإعادة تأكيد أهمية العودة الطوعية والآمنة والمستدامة للنازحين العراقيين، وكذلك لجمع الموارد لدعم جهود الحكومة في تحقيق هذا الهدف». وقال ممثل المنظمة في العراق برونو غيدو: «نحن نتحمل مسؤولية جماعية في مواصلة دعم العراق في هذه المرحلة الحاسمة ويجب ألا نترك شعب العراق في وضع حرج». وناشدت منظمة يونيسيف الدول المشاركة في مؤتمر الكويت الالتزام بدعم استعادة الخدمات الأساسية للأطفال في العراق.
بالتزامن مع مؤتمر إعادة إعمار العراق، عقد وزراء خارجية الدول الأعضاء في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم «داعش» اجتماعاً في الكويت بحضور وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون ونظيره الفرنسي جان ايف لودريان. وعشية الاجتماع، وصل لودريان إلى بغداد للتباحث مع المسؤولين العراقيين حول إعادة الإعمار وضمان الاستقرار، وقال عند وصوله إلى المطار إنه جاء للتعبير عن دعم فرنسا لجهود العراق في هذا الصدد، وأضاف: «سنكون دائماً إلى جانبكم كما فعلنا لدى مشاركتنا في التحالف الدولي». ورأى البعض أن على أميركا تحمل العبء الأكبر في هذا الشأن، بما أنها الدولة التي قادت عملية تدمير العراق، وخرقت في سبيل ذلك المواثيق والقوانين الدولية، وفي مقدمها تحريم انتهاك السيادة الوطنية للدول.
نعم، هناك دول أخرى تتحمل المسؤولية الأخلاقية في ما يتعلق بإعادة إعمار العراق بسبب مشاركتها في جريمة غزوه، ولكن هذه الدول كلها ما كانت لتقدم على هذه المشاركة لو لم يكن هناك ضغط أميركي كبير عليها لإضفاء الطابع الجماعي على العملية العسكرية. وقد يكون المؤتمر توجهاً كويتياً لدعم العراق وتضميد جراحه، بعد أن تمزّق هذا البلد على أسس عرقية ومذهبية، ويبقى الأمل معقوداً على الآلية التي سيتم تطبيقها في توزيع المساعدات ومشاريع الإعمار، وبما يضمن إخراج العراق من أزمته.
التصور بأنه حال عقد المؤتمر، فإن أموالاً ستجمع وتسلم للحكومة العراقية، هو تصور ساذج، وغير مطلع على ميكانيكية مؤتمرات من هذا النوع، فهي ليست أفضل الوسائل، لكنها مبادرة حسن نيات من المنظومة الدولية، باستعدادها لإعادة إعمار بلد عانى طويلاً التدمير الممنهج. شارك في المؤتمر ممثلو 76 دولة، و107 منظمات دولية وإقليمية، و51 صندوقاً ومؤسسة تنموية، ونحو 2000 جهة قطاع خاص، وغطاه أكثر من 400 إعلامي من أنحاء العالم، ويُعد ذلك نجاحاً من هذا الجانب بالنسبة للكويت، حيث كسبت احترام العالم، وللعراق، حيث كان قادراً على التفاعل بجدية بتقديم مشروعات تبدو أكثر احترافية مما سبق. المبادرة الكويتية، أياً كانت نتائجها، ستنعكس إيجاباً لمصلحة الطرفين؛ الكويتي والعراقي، بالدرجة الأولى، بغض النظر عن الآراء المسيَّسة التي لا يعنيها أن يظل العراق في وضعه الغارق في الديون (130 بليون نهاية السنة، وفق آي أم أف)، ولا يعنيها أن يظل العراق مدمراً، بل تعنيها الغلبة السياسية لفئة على فئة. على صانع القرار العراقي إدراك أن الأموال التي يمكن أن يحصل عليها من الدول تتأتى في الغالب من إيرادات دافعي الضرائب، وبالتالي لا يمكن أن يضحي صانعو السياسات في الدول المشاركة بناخبيهم وجماهيرهم في دفع أموالٍ لمؤسساتٍ يرونها في أغلبها فاسدة. والسؤال طرحه البعض: مؤتمر لإعمار العراق أم لسرقة المانحين؟ فمن غير المتوقع أن تتسلّم الحكومة العراقية ما تحلم بالحصول عليه نقداً، لا لشيء إلا لأن ذلك النقد من وجهة نظر الجميع سيذهب إلى أرصدة الأحزاب التي تتقاسم ثروات البلد في ظل نظام المحاصصة.
يبقى أن الإشكالية لم تكن قط في عقد المؤتمر، وقد نجحت الكويت فيه، كاسرة حواجز كثيرة وكبيرة. الإشكالية أنه لم تكن هناك إجابة واضحة عن أسئلة مثل: كيف ستدار الأموال، ومَن سيتولى التنسيق بين الأجهزة المستثمرة المتعددة؟ وكيف سيتم التعامل مع ملف الفساد الضارب في العمق؟ وما مقاييس الإنجاز؟ وكيف ستدار حملة إعادة الإعمار، وهل ستلتزم بمبادئ العدالة وعدم التمييز والتفرقة المناطقية أو العرقية أو الإثنية أو المذهبية، وكيف سيتم التعامل مع الحالة الأمنية والميليشيات المتعددة، وتأثير دول الجوار؟ تلك أسئلة مشروعة ومعقدة. فهل نجد إجابة عنها عند صانعي القرار في العراق؟