منى الخوري
قرأت الخبر وأبقاني مستيقظة في سريري. الخبر هو ترشح جميل السيد إلى الانتخابات النيابية المقبلة في لبنان. وهذا الخبر مقلق للكثيرين من جيلي الذين اعتصموا في بيروت عام ٢٠٠٥. لن يكون على الأرجح جميل السيد النائب مختلفاً عن جميل السيد المدير العام للأمن العام في عهد إميل لحود، حين كان النظام السوري يتدخل في لبنان ويتلاعب بالانتخابات ويعين وزراء ويُسكت صحافيين وناشطين. فلم يلبث أن أعلن ترشحه حتى باشر السيد مطاردة الصحافية جسيكا عازار بسبب تغريدة على «تويتر»، وأقام دعوى قدح وذم عليها. ودخل ابنه على الخط مستخدماً عبارات نابية ومهينة ضد المرأة على «تويتر»، أيضاً رداً على جسيكا. تبقيني هذه الأخبار مستيقظة في سريري خائفة مما قد تنتجه الانتخابات القادمة.
أنا من جيل شبان وشابات تظاهروا في ساحات بيروت في شباط (فبراير) وآذار (مارس) ٢٠٠٥ مطالبين بسيادة لبنان وخروج الجيش السوري من أراضيه. وبعد ٢٠٠٥، كنت من بين العديدين الذين لم يجدوا أنفسهم في الأحزاب التقليدية اللبنانية، التي عادت إلى ممارساتها السابقة بعد مرحلة التظاهر. فوجد بعض منا في جمعيات المجتمع المدني إطاراً لنشاط سياسي تطوعي مبني على منطق الحقوق والواجبات والتنمية والعادلة الاجتماعية. ثم جاءت انتخابات الـ ٢٠٠٩ لتشهد أعلى نسب الرشوة، هذا قبل أن يتم تأجيل الانتخابات لسنوات. بدأ يتغير نمط الاعتراض. فقام الحراك المدني لمواجهة السلطة الحاكمة، والذي تلاه في ٢٠١٦، ظهور أول لائحة مستقلة خاضت الانتخابات البلدية في بيروت، وحصدت حوالى ثلث أصوات الناخبين، كما أسست لنهج جديد في العمل السياسي في لبنان.
تفصلنا أسابيع قليلة عن أول انتخابات نيابية في لبنان منذ تسع سنوات، وهي انتخابات تحمس لها عدد من ناشطي المجتمع المدني، بخاصة بعد إقرار قانون انتخابي على أساس نسبي. لكنني قلقة من أن تجربة الانتخابات البلدية قد لا تعاد في الانتخابات النيابية. في العادة، أكون من أول الداعمين لحملة مدنية تستخدم شعارات المجتمع المدني لإحداث تغيير ما. لكنني أجد نفسي قلقة هذه المرة. فهذه المرة، جميل السيد مرشح على الانتخابات. هذه المرة لا نستطيع التذرع ببراءة سياسية أو بخطاب حقوقي وتنموي فحسب. هذه المرة يجب أن نتكلم عن كيف يستطيع جميل السيد أن يصبح نائباً للأمة فيما الحزب الذي يدعم ترشيحه يخوض حرباً دامية في سورية إلى جانب بشار الأسد.
إن الانتخابات فرصة للمشاركة السياسة. لكن المشاركة السطحية قد تلهي الناس عن المشاكل الأعمق في لبنان. أنا قلقة من أن المشاركة هذه المرة قد تكون علامة شؤم وإشارة الى أننا فقدنا الأمل بقدرتنا الحقيقية على التغيير. فمع كل هروب من مواجهة الواقع بتعقيداته، نقلّص جهودنا وتاريخ نضالنا. من هنا، أرى أن الخطاب الحالي حول الانتخابات النيابية التي تخوضه القوى المعارضة المدنية حتى الساعة خطاب انهزامي، قد يؤدي بأصدقاء وصديقات يترشحون طامحين بالتغيير إلى الانتهاء في دور هامشي مفاده تجميل الصورة الانتخابية. لست ضد فكرة خوض الحياة السياسية من باب الانتخابات ولكنْ بخطاب يرفع قدرتنا على التعاطي مع التحديات الكبرى. كان على هذه الانتخابات أن تكون محطة للناشطين والناشطات لتسليط الضوء على ممارسات تهدد أمننا وتزعزع ثقتنا بقرار بقائنا في هذا البلد.
حين كنت تلميذة كنا نناقش في سيادة لبنان والسياسة الخارجية ودور سورية وأميركا وغير ذلك في الشأن الداخلي. أما الآن، فأنا قلقة من أنا هنالك من يقول للشبان بأن الوقت ليس مواتياً لمناقشة هذه الأمور. كنا في الماضي نطالب ونناقش الزواج المدني وحقوق المرأة، واليوم هناك من يترشح من دون التطرق الى هذه المواضيع متذرعاً ببراءة سياسية مفادها بأن الشبان أصلاً لن يستطيعوا إحداث تغيير جذري. لقد أصبح شعار هذه الحملات «نحن أحسن منن» على غرار شعار الحراك «كلن يعني كلن». وشعار كهذا يضعف إرادة التغيير لدى الشبان ويحبط عزم الناخبين فيصبح المجتمع المدني شريكاً في عملية الانتكاس والانتقاص السياسي ويساهم في وصول جميل السيد إلى البرلمان من دون حسيب أو رقيب.
وما دمنا لا نستطيع التكلم في المشاكل الكبرى والتحديات العميقة، فقد لا يكون وقت الترشح قد نضج. ربما كان يجب استثمار هذه اللحظة للتعمق وتطوير إجابات وحلول للأمور الشائكة. ربما كان هذا هو الوقت للتظاهر. وإن لم يكن التظاهر في الشارع، فمن خلال ورقة بيضاء في صناديق الاقتراع. ربما كان هذا الوقت لإعادة التموضع ووضع خريطة للتعاطي مع ظاهرة ترشيح جميل السيد ومع موضوع قمع الحريات والحرب والسيادة والحدود وغيرها من الأمور.
فما دمنا لا نستطيع التكلم عن الحدود المفتوحة في الشمال، فالورقة البيضاء ربما كانت هي الخيار الأنسب لإعادة المعارضة الفعالة في لبنان. وما دمنا لا نستطيع التعاطي مع أطفال الغوطة ولسنا مستعدين لطرح الزواج المدني، فالورقة البيضاء ربما كانت هي التعبير الأنسب عن عجزنا. وما دمنا لا نريد أن نتطرق الى موضوع السلاح المتفلت وحقوق اللاجئين السوريين، فالورقة البيضاء قد تكون بداية الاعتراف بالحاجة الى مناقشة هذه المواضيع. وما دمنا لا نستطيع التكلم في هذه المواضيع، فالمقاعد النيابية التي قد يحرزها المجتمع المدني لن تكون مجدية في معارضة جميل السيد وأمثاله في المجلس النيابي الموعود.