عن «فائض العمالة» في لبنان

1

محمد قواص
في معرض تعليقه على قضية زياد عيتاني، أثار وزير الداخلية اللبناني نهاد المشنوق مسألة تعرضه شخصياً لتهمة العمالة لإسرائيل كإجراء كيدي دبرته المخابرات السورية أثناء عهد وصاية دمشق على لبنان. غير أن المظلومية التي عانى منها الوزير اللبناني خَبِرَها عدد من اللبنانيين خلال العقود الأخيرة، على النحو الذي جعل من التهمة شأناً مألوفاً في يوميات البلد يندرج ضمن عدّة ممارسة السياسة في لبنان.
 
والأمر لا يرتبط فقط بوجاهة أو فراغ الاتهامات المُكالة ضد هذا وذاك، بل يتّصل باعتبار المسألة نسبية تجوز فيها وجهات النظر. وإذا ما أسقطت أجهزة الأمن «عملاء» لإسرائيل ينتمون للطوائف والمشارب السياسية كافة، فإن حدّة تلك العمالة وخطورتها تتحدد وفق هوية العميل المزعوم وموقفه أو مواقف بيئته السياسية من حزب الله. فمنهم من طال سجنه قبل أن يطلق سراحه بريئاً، ومنهم من حكم وسجن وخرج من السجن على أكتاف محبيه ومريديه. وحين كان مطلوباً تجويف التحقيق في قضية اغتيال رفيق الحريري، كان سهلاً إيجاد جواسيس لإسرائيل يعملون داخل الأجهزة والمؤسسات التي كشفت تورط أفراد ينتمون إلى حزب الله في قضية ذلك الاغتيال.
 
على أن الكشف عن وجود عملاء يعملون لصالح الموساد داخل صفوف حزب الله، وأحيانا داخل الدائرة القريبة من أمينه العام، يبقى أمراً يغرق في صمت خبيث. بمعنى آخر تبقى»المقاومة» محصّنة، حتى ضد الأسئلة المشروعة حول أسباب سهولة وصول إسرائيل إلى داخل معاقل الحزب على الرغم من الحصون الأمنية والسياسية والعقائدية التي يحيط الحزب بها نفسه وجمهوره. وفيما تروج العمالة خارج حصون الحزب بصفتها تفصيلات أمنية عرضية تندرج ضمن المماحكات السياسية الداخلية، فإن العمالة داخل صفوف الحزب وجمهوره تبقى خارج أي نقاش لا سيما في مسألة علاقة سلوكيات الحزب وما نسب إليه بالاختراقات التي حققتها إسرائيل داخل جسمه.
 
على أن اتهام خصوم حزب الله وقبل ذلك خصوم نظام دمشق في لبنان بالعمالة لمصلحة إسرائيل (كحالة الوزير المشنوق مثلاً)، جعل من العمالة عارضاً قد يصيب أي لبناني، وبالتالي جعلت من عملية تجنيد العملاء أمراً أكثر سهولة بالنسبة لإسرائيل. حتى أنه بالإمكان تخيّل أن أجهزة المخابرات الإسرائيلية التي تعمل على الحالة اللبنانية تجد في انتشار عمالة لا علاقة لها بها سوقاً مزدهراً لبيع بضاعتها. بالمقابل باتت العمالة في وقعها المشهدي اللبناني علة تشبه الإدمان على النحو الذي يجعل جهازاً أمنياً لبنانياً يعتبر أن مبالغ تتراوح بين 500 وألف دولار (في حالة زياد عيتاني الشهيرة) أمراً مغرياً لسقوط مواطن لبناني في حبائل العمالة لمصلحة العدو.
 
والحال أن أمر العلاقة الملتبسة مع إسرائيل انتقل من مرحلة التحالف مع تيارات سياسية إبان الحرب الأهلية إلى سلوك منعزل لا يحظى بأي سقف تبريري حتى من قبل أكثر البيئات السياسة عداء لحزب الله. بات اللبنانيون جميعاً، خصوصا أولئك الذين خبروا العلاقة اللوجيستية والعسكرية معها، يعتبرون إسرائيل خصماً لا يمكن الوثوق به مهما اشتدت الظروف التي دفعت بعض اللبنانيين إلى اختيار جهنم العدو على جنة الأخ والصديق.
 
غير أن مسألة العمالة باتت في ظل الوصاية السورية وزمن «فائض السلاح» عند حزب الله تهمة سياسية لا تستند إلى أي معطى، وهي من شدة ما استخدمت لم تعد العامة توليها أي اهتمام جدي ولا تصدق وجاهتها. لكن الأنكى من ذلك أن هذا الاحتمال النادر في أزمنة سابقة لم يكن فيها أي «مقاومة» أو «جمهور مقاومة»، بات في ظل عقائد تلك المقاومة حالة رائجة على النحو الذي يطرح سؤالاً حول جدلية العلاقة بين «فائض السلاح» و «فائض العمالة».
 
يتعايش حزب الله مع حالة العمالة بصفتها أمراً واقعاً وجب التعامل معه إن وجد، أو اختلاقه إن اختفى، فوزراء الحزب يشاركون في حكومة مع الوزير المشنوق الذي اتهمته دمشق بالعمالة من دون أن يصدر عن الحزب عكس ذلك، لا بل إن للمشنوق علاقات متقدمة مع رئيس وحدة الأمن والارتباط في الحزب وفيق صفا، لم تمنع نائب الحزب في البرلمان نواف الموسوي، من اتهامه بالعمالة في معرض السجالات الروتينية البرلمانية السابقة بين الحزب وتيار المستقبل.
 
أن يلقي جهاز أمني لبناني القبض على عميل لإسرائيل بتهمة الترويج داخل الدوائر الثقافية لدعاية السلم مع إسرائيل (إذا ما أسقطنا حاجة الموساد لمعلومات عن سكن وزير وشخصيات سياسية)، فذلك أن لبنان وأجهزته باتوا في حاجة لإنتاج حالة عمالة يتم رصدها والإيقاع بها في معرض التنافس بين الطوائف على وجاهة الأجهزة الأمنية التابعة لها. حتى أن براءة زياد عيتاني وإدانة من أوقع به تخضعان لوجهات نظر ذات خلفيات سياسية طائفية لا تبرئ هذا ولا تدين تلك.
 
ومسألة العمالة هي حاجة جمعية يستخدمها العامة للتهجم إلى عامة أخرى. فمن صدح كثيراً في شتم العميل المتهم زياد عيتاني وتخوين من تجرأ على التشكيك وطرح الأسئلة حول رواية عمالته، غير مبرمج للتخلي عن تمسكه بالاتهام الذي يوفر له توازنا سيفقده من خلال الاعتراف بالاستعجال في صبّ الزيت على النار.
 
وعلى هذا فإن العميل البريء سيبقى عميلاً في عيون من استماتوا في دفع أحقاد ضده، ذلك أن جمهور المقاومة جاهز للقرع على طناجر الإعداد للمشانق ولن يطيق إزالة أدوات الإعدام ومنابرها داخل «تويتر» و «فايسبوك» ومواقع القرقعة والضوضاء.
 
تحدث المفكر الجزائري الشهير مالك بن نبي عام 1948 عن مفهوم «القابلية للاستعمار» في معرض تفسيره آليات خضوع المنطقة للأجنبي. في لبنان قابلية للعمالة، لا يهم إذا كانت تلك العمالة واقعاً أو فبركة ملعونة، المهم أن تصبح العمالة مفهوماً شائعاً يبرر حتى إشعار آخر حاجة البلد لـ «المقاومة».

التعليقات معطلة.