أحمد جابر
باتت جغرافيا المناطق العربية مسرحاً لانفلات النظام الدولي من أطر انتظامه، وصارت المناطق الطرفية التي حملت اسم العالم الثالث منبراً لإعلان انفراط عقد أخلاقياته. يحمل المنبر اسم أفغانستان أو ميانمار أو جورجيا أو أوكرانيا أو ساحة الحرية في بكين، مثلما يحمل أسماء مدننا العربية القتيلة، الممثل بجثث أبنائها من قبل آلات قمع الأنظمة، وبالتعاون والتحالف مع قوى متعددة من بلاد «الحضارة» التي انتظم بها ومعها، عقد «عالم»، ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ولا تشذ الحروب المتنقلة الحالية عن تلك التي عاشت أهوالها البشرية في قرون ماضية، فالاقتصاد كان العصب المحرك لكل آلة حربية، والسياسة الحربية الاقتصادية كانت آلة حشد المبررات الداخلية والخارجية، وجهاز تسويغ سلب حياة المواطنين «الوطنيين»، بصفتهم شهداء الحرية والتقدم والرفاهية، وسلب حياة وثروات الشعوب الأخرى، بصفتهم أعداء تسكنهم غريزة البدائية والاطمئنان إلى السكن في ظلمات العصور. دمج الاقتصاد بالسياسة، هو ما اصطلح على تسميته بالاقتصاد السياسي، من قبل العالم الأكاديمي والأنساق السياسية، فصار أساساً متيناً من أسس بناء كل دولة. خلف ذلك العلم الاقتصادي كمنت رغبة التملك والثروة، وهذه ما كانت إلا إطاراً جامعاً لكل الأشياء القابلة للتداول، بحسب من حدَّد الثروة وعرَّفها، وما كانت إلا حاملةً للسرور وطاردةً للتعب، لدى الشعب الذي يحصل عليها، من خيرات بلاده الخاصة، أو من الخيرات التي تأتيه بالقوة من وراء البحار.
الاقتصاد السياسي الذي أتى به اقتصاديون احتفظ التاريخ بأسمائهم، كان وما زال اقتصاد قتل سياسي استهدف الشعوب التي شكلت بلادها موضوعاً للنهب، وذات المقولات الاقتصادية السياسية، كانت وما زالت، أدوات فتك بالعمران البشري وبالشعوب التي يجري التعامل معها كأشياء قابلة للتداول، وإبادتها تجلب السرور لأنها تتضمن الاستيلاء على الثروات، أي أن عائد التخلص من بلاد بأكملها يشكل مادة نافعة لدى أنظمة الاقتصاد السياسي التي صارت أنظمة قاتلة.
على هذه الخلفية الاقتصادية السياسية، نفهم أن ما تتخذه دوائر القرارات العالمية حيال مناطق الثروات المنكوبة، أسبابها اقتصادية، والسياسات التي تقودها هدفها الوصول إلى نتائج اقتصادية، من بينها التحكم بمسيرات التوازنات الإستراتيجية، السياسية والتجارية ولاحقاً الثقافية، وبعدها اتخاذ وضعية من يملي السنن والمعايير الأخلاقية. تبعاً لذلك، تمتلك أمة ما أسباب التفوق، فتغيب القدرة على المحاسبة، وتحضر تراتبية عالمية فيها «أمة فوق أمة»، وفيها عالم أول وعالم ثانٍ… وعالم أخير.
تسقط في سياق سيادة أحكام اقتصاد القتل السياسي مقولات الحق والعدالة والخير، فالسيادة للأقوى، والبقاء للمتغطرس، وهذا لا علاقة له بنظرية الاصطفاء الطبيعية، إذ ليس بالضرورة أن يكون الأقوى اليوم هو الأفضل، ولعل ما يطالعنا من ممارسات وسياسات دولية، يؤكد أن الأقوى اليوم هو الأسوأ والأكذب والمزوّر والقاتل من بعد، هذا حتى لا تصفعه عيون القتلى المفتوحة على اللاشيء، ولا يخزه في عينيه وأذنه، دفق وصوت الدم الذي تضج به ساحات السكان الذين باتوا أشياء نافعة وقابلة للتداول، ومادة مولِّدة للثروات ولتراكمها في خزائن اقتصاديات القتل السياسي.
في الوضع العالمي الراهن، غابت «النواة المركزية» التي كانت تجمِّل سياساتها الناعمة أو الفظة، بحزمة من الإعلانات الثقافية والأخلاقية والإنسانية. لقد سقط الاتحاد السوفياتي ومنظومته، ومعهما ذهبت «المحاولة الاجتماعية» الاقتصادية التي كان شعارها مجتمعاً أفضل وعدالة أكثر ومعاناة أقل. المركز السوفياتي شكل تحدياً للمركز الرأسمالي الذي قادته الولايات المتحدة الأميركية، فاستجابت للتحدي بالاستعداد العسكري، وبتقديمات وإجراءات رأسمالية ليبرالية، ليست من منطق النهب الرأسمالي المتوحش الذي ينحو دائماً منحى تعظيم أرباحه، والتخفف ما استطاع ذلك، من أعباء تحصيل تلك الأرباح.
ورثت الولايات المتحدة الراهنة ما كان لها من توحش رأسمالي بنيوي سابق، وتراجعت الديموقراطية الأوروبية عن وعود كثيرة من أصول ديموقراطيتها، وعادت اشتراكية السوفيات إلى بلاد القيصرية وزمانها، حيث تبذل جهود روسية حثيثة لاستعادة نُتَف من ذلك الزمان الإمبراطوري.
غياب الأقطاب الدوليين كَنسَ معه «حكام الأقاليم»، فهؤلاء الذين نطقوا بالولاء لهذه التجربة أو تلك، لم يكونوا من أبناء أي تجربة، لذلك رجعوا إلى الهوامش التي نبتوا فيها أصلاً، ومن ثم إلى دوائر ترسيخ سيطرتهم على شعوبهم بالاستعانة بقوى «المراكز الجديدة»، ما استمر منها كمركز وما انهار.
الصورة الجديدة ليست أقل من تحالف استبدادين على مساحة الخريطة العالمية: استبداد قوى القتل السياسي، باسم السياسة والحضارة والاقتصاد، واستبداد قوى القتل المحلية باسم الوطنية والعروبة والإسلام والتمسك بالأصول والجذور. التحالف الجديد هذا، يولِّد الحروب ويرعاها، ثم يخوضها بكل ما أوتي من أدوات توحشه، ولذلك، تنبت عندنا داعش وأخواتها ولا تغادر المسرح، ولذلك تموت الشعوب سحقاً وسحلاً وطمراً تحت الأنقاض، فلا تهتز للمستبدين «قصبة»، ولا تتوقف أبواقهم عن تمجيد «أخلاق النيران».